رمز الخبر: ۱۳۰۲۰
تأريخ النشر: 13:12 - 17 May 2009
د. عبدالله إبراهيم

البابا والإمبراطور

عصرایران - لمناسبة الجولة الدينية والدنيوية التي يقوم بها البابا بنديكتوس السادس عشر في منطقة الشرق الأوسط هذا الأسبوع، أرغب في العودة مرة أخرى الى وصف كيفية ظهور هذا المركز الديني، وصلته بالمفهوم السياسي للامبراطورية، وتحليل مجمل العلاقة التي تربط مفهومي البابا والامبراطور بعضهما ببعض، فحينما يرد اسم البابا يوصف فوراً بأنه الحبر الأعظم ٍِّيٍّفح ٍّمنيَُُِّ ويحيل هذا الوصف على الاسم الروماني للبابا، فالكلمة ٍّمنيَُُِّ كانت تطلق على عضو مجلس الكهنة الأعلى في روما القديمة، أما ٍِّيٍّفح فصفة للكمال، والعظمة، وحيازة المعرفة الدينية، فيكون ٍِّيٍّفح ٍّمنيَُُِّ هو المرجع الأعلى الذي ينبغي العودة إليه في كل شأن ديني مهم، لأنه القادر على ذلك، فالحبر الأعظم في الشأن الديني، يناظر الامبراطور، في الشأن السياسي. ومن الغريب أن تحافظ هذه التسمية على تماسكها الى الآن على الرغم من كل التحولات السياسية والدينية التي شهدها العالم خلال تلك المدة الطويلة، وسبب ذلك أن الكنيسة نشأت في وسط النظام الامبراطوري الروماني، ولا يخفى التماثل بين هيكل الكنسية وهيكل الامبراطورية، فكل منهما اتخذ لنفسه وظيفة. سيطرت الكنيسة على روح المؤمن، وسيطرت الامبراطورية على جسده، وعلى هذا يكون البابا والامبراطور قد تقاسما الكائن الإنساني على أساس فرضية أنه روح وجسد، وتلك من ثنائيات الفكر القديم الذي لم يزل حاضراً في المخيلة الإنسانية.


لقد ظهرت الكنيسة الغربية لتوافق النظام السياسي للامبراطورية، ثم استخدمت بوصفها غطاء شرعياً لممارسة النفوذ السياسي والأخلاقي الذي تتبناه الدولة، فمنذ القرن الرابع، وفي عهد قسطنطين (حكم للفترة من ۳۰۶ لغاية ۳۳۷م، واعتنق المسيحية، وسرعان ما جعلها الديانة الرسمية للامبراطورية) تحولت الكنيسة من كنيسة يسوع المصلوب الى كنيسة الله القادر على كل شيء.

ثم اصبحت قوة سياسية حينما اندمجت في بناء مؤسسة الامبراطورية، ثم الدولة، وفيما بعد في ثقافة الغرب. وقد حلل روجيه غارودي عملية الانتقال المتدرج، فخلص الى أنه تم بسبب تسرب عدوى الفلسفة الإغريقية الى لاهوت الكنيسة، ولا سيما عدوى ثنائية الجسد والروح الأفلاطونية، والعالم الحسي والعالم فوق الحسي، الأمر الذي حول المسيحية خلال قرون طوال أفلاطونية شعبية تجعل معنى عالمنا الحاضر وقفاً على إعدادنا لبلوغ العالم الآخر، وعلى هذا فإن في وسع المرء أن يصبر على بلوائه، وقد قوّيت هذه النزعة بعدوى ثانية: عدوى تنظيم الكنيسة تبعاً لبنيات تسلطية وتراتبية تناظر بنيات الامبراطورية الرومانية التي كانت تقدم الأنموذج الحقوقي لتنظيم الكنيسة المنتصرة، وعلى هذا النحو بنيت كنيسة العصر الوسيط.

وكانت أهرام السلطات الروحية تماثل تماماً أهرام السلطات الزمنية، وبلغ هذا التماثل حداً طرح مشكلة أساسية، وهي: أينبغي أن يكون الرئيس الأعلى البابا أم الامبراطور؟. وظل الأمر قائماً الى القرن الثالث عشر إذ اقترح توما الأكويني طرازاً جديداً من التفاعل الروحي والزمني مستلهماً عقلانية أرسطو، فأوصى بالإبقاء على هرم السلطات كما هو، بل ودعم وجوده، ومنح شيئاً من الاستقلال النسبي لما هو زمني. ولكنه أضمر موضوع التوجيه الديني، باعتبار أنه يحايث الطبيعة ذاتها، على نحو يشابه الكيفية التي تنجز فيها النغمة الطبيعية دون أن تهدمها. واعتبر هذا التوفيق الذي جاء به الأكويني من الحلول للتناقضات النوعية في عصره. وظل ملزماً للطرفين الى الآن. الى ذلك فإنه في الكنيسة الكاثوليكية أصيبت المسيحية بعدوى الفردية الذائعة في عصر النهضة الغربية، وذلك أدى الى اعتبار الدين المسيحي حافزاً لاتساع المسيحية.. ونجم عنها تقارب سياسة الكنيسة من سياسة الطبقات المسيطرة في الغرب، بصورة متعاقبة، الإقطاع في الفترة الأولى، ثم الرأسمالية فيما بعد.

تعود الإشكالية التي أثارها انتماء الكنيسة المزدوج الى عالمين: سماوي وأرضي في آن واحد، الى اللحظة التي قرر فيها قسطنطين أن يلعب دوراً مزدوجاً. فهو الذي دشن تلك الإشكالية، حينما قرر أن يضفي على نفسه لقب الرسول الثالث عشر الى جوار لقبه الامبراطوري، فظهرت صورته وقد تداخلت فيها مجموعة من الأطياف المتمازجة: العاهل، والمحارب، واللاهوتي، وكان عليه أن يمارس تلك الأدوار في لحظة واحدة، في محاولة لامتصاص التناقضات التي كانت تعصف بالامبراطورية سواء ما يتعلق بالتركة الرومانية التي وجد نفسه ملزماً بالتعامل معها، بما في ذلك صورة الامبراطور في مخيال الرعية، أو باستحداث أساليب استقطاب فعالة لمعالجة النزعات الدينية التي فرضت حضورها في أجزاء كثيرة من الامبراطورية، ومن المؤكد أن ظروف نشأة المسيحية وانتشارها، والخلافات الناشبة بصدد الأناجيل وصفات المسيح وعلاقته بالرب، والمشكلات المثارة لاهوتياً في المجامع الدينية، كانت حاضرة في وعيه، وهو يقدم على ممارسة الدور المزدوج الذي لا يمكن الآن القول إنه دفع إليه أم اختاره.

ولم يكتف بأن يجعل المسيح دريئة يحتمي بها لخرق وجدان الرعية، إنما جعل نفسه وسيطاً بين الرعية والرب، وذلك في مماثلة واضحة للوساطة التي تحدد دور المسيح، كونه هو الآخر وسيطاً بين الناس وربهم، وحاملاً في الوقت نفسه جانباً من خصائص ذلك الرب.

وبهذا التماثل الذي سنّه قسطنطين وجدت الكنيسة الناشئة نفسها تندرج في صلب الممارسة السياسية ولما كانت عاجزة نظرياً عن تفسير سبب قوتها التي تجمع بين الهيمنة على الأذهان والإمساك بالأجساد، فقد أخذت على عاتقها مهمة حمل كلمة الرب، وما ينجم عن ذلك من حق التشريع على الأرض بأسرها. وحق الإمساك بدفة العالم.

وجدت كل من الكنيسة والامبراطورية المشاركة في الدور الذي رسمه قسطنطين، فالاتفاق الضمني أو المعلن بين الأباطرة والملوك من جهة والبابوات من جهة أخرى ظل محترماً بصورة عامة، ولم تتهدده مخاطر جدية، إلا عثرات الأهواء والمطامح أحياناً، ذلك أن ممثلي السلطة الدينية والسلطة الدنيوية كانوا يعرفون أنهم لا يتقاطعون في أهدافهم ومصالحهم، إنما يكمل كل مهمة الآخر، جاعلين من الرعية ميدان تجريب مفتوح لممارسة السلطة، كائنة ما كانت أشكالها، وغاياتها، وأهدافها. على هذه الشاكلة كيفت تعاليم المسيحية، وزحزحت أخلاقياتها، واصطنع لها لاهوت سياسي - ديني، وغادرت منطقتها الأصلية، واندرجت في سياق مؤسسة تدعم مؤسسة السلطة، وهي الكنيسة التي ظلت مدة طويلة تسوغ دينياً أفعال السلطة لأنها كانت وجهاً من وجوهها الكثيرة.
الراية - قطر