رمز الخبر: ۱۷۵۰۳
تأريخ النشر: 20:20 - 14 November 2009

عصرايران - لعل من أقوى المفارقات أن ماري ندياي الكاتبة الفرنسية ذات الأصل السنغالي قد فازت بجائزة غونكور، أرفع الجوائز الأدبية الفرنسية، بالتزامن مع إطلاق الحكومة الفرنسية، وخاصة أريك بسون الذي يتولى منصب 'وزير الهجرة، والاندماج، والهوية الوطنية والتنمية التضامنية' (!)، حملة لا سابق لها لحث الشعب الفرنسي على فتح نقاش عام وشامل حول مفهوم الهوية الوطنية. فقد بدأت الحكومة حملتها يوم الثاني من هذا الشهر بفتح موقع على الإنترنت يمكن للمواطنين أن يسجلوا فيه إجاباتهم على هذا السؤال: 'بالنسبة لك، ماذا يعني أن يكون المرء فرنسيا؟'.


ومن شدة الحرص على عدم الخروج على الموضوع، أرسلت 'وزارة الهجرة والاندماج، الخ..' إلى رؤساء المحافظات المكلفين بتنظيم النقاشات العامة في مناطقهم 'دليلا إرشاديا' يتضمن ما لا يقل عن مائتي سؤال، أي ترسانة كاملة من الأسئلة-الأسلحة الثقيلة، تشمل كل شاردة وواردة يمكن أن تساعد في محاولة المسك بزئبق الذات والهوية... وبطبيعة الحال، لم يجرؤ أحد من المسؤولين الحكوميين على الإقرار بأن الغاية الأساسية من هذا التمرين المشبوه في مجال رفع سياسات الهوية إلى مستوى الإيديولوجيا الرسمية إنما هي التوق إلى إعادة الأمور الاجتماعية والثقافية، التي مضت في الاختلاط والتنوع مدى بعيدا، إلى نصابها القومي والحضاري 'الصحيح'، أي المصفّى والمنقّى من الشوائب التي جلبتها الهجرة غير الأوروبية، ممثلة تحديدا في الجاليات المغاربية والإفريقية.

أما وجه المفارقة فيتمثل في أن ماري ندياي لم تعد تطيق العيش في فرنسا هذه التي تتغنى حكومتها بمفاخر الهوية وتدعو الشعب الكريم إلى التفلسف معها حول ألغازها. ذلك أن الكاتبة الشابة قد هربت منذ عامين ونصف من فرنسا إلى ألمانيا! إذ ما إن فاز نيكولا ساركوزي بالانتخابات في منتصف 2007 حتى قررت الروائية الهجرة مع عائلتها إلى برلين لأنها وجدت أن 'فرنسا أصبحت رهيبة في عهد ساركوزي'. وفي ذلك تقول: 'لقد رحلنا بعيد الانتخابات بسبب ساركوزي أساسا... إني أجد أن مناخ المضايقات البوليسية والابتذال والبذاءة الذي أصبح سائدا في فرنسا مناخ كريه.
 
وأجد أن أريك بسون (وزير الهجرة) وبريس هورتفو (وزير الداخلية) وكل هؤلاء القوم أشرار... أتذكر قولة للروائية مارغريت دوراس (...) بأن اليمين هو الموت. هؤلاء يمثلون بالنسبة لي شكلا من أشكال الموت، والنزول بالتفكير إلى حضيض الحمق (...) ورغم أن (مستشارة ألمانيا) أنغيلا مركيل امرأة يمينية، فإنه ليس بينها وبين اليمين الذي يمثله ساركوزي أدنى صلة: ذلك أن لديها بعدا أخلاقيا يفتقر إليه اليمين الفرنسي'.

ويبدو أن هذه التصريحات التي أدلت بها ماري ندياي قبل شهرين من فوزها بالجائزة قد آلمت أريك راوول، أحد نواب حزب ساركوزي في البرلمان، إلى حد أنه وجه قبل أيام رسالة إلى وزير الثقافة فردريك ميتران (ابن شقيق الرئيس الراحل) يطالبه بإلزام الكاتبة باحترام ما سماه 'واجب التحفظ'! (ظنا منه ربما أنها دبلوماسية أو مسؤولة عسكرية!) حتى أن صحيفة 'ليبراسيون' عنونت ساخرة:
 
البرلماني الفلاني 'يخترع واجب تحفظ بالنسبة للكتاب والمبدعين'! ومثلما هو متوقع، فقد تعالت أصوات التضامن مع الروائية من كل جانب. وبينما اكتفى ميتران بالتصريح بأن للكاتبة الحق في قول كل ما تريد، فإن زعيم حزب الحركة الديمقراطية فرانسوا بايرو قال: '...بل إن واجب الكاتب هو التعبير بكل حرية. إن الواجب الذي يقع على عاتقه هو واجب الحرية'. وقالت أمينة الحزب الاشتراكي مارتين أوبري إن مجاهرة الكتاب والمبدعين بكلمة الحق ضد السلطة هي سنّة عريقة في فرنسا، حيث أن ماري ندياي هي 'سليلة هؤلاء الكتاب الكبار الذين قرنوا الكتابة بالالتزام، والأدب بفضح المظالم من فولتير إلى هوغو، ومن زولا إلى كامو'.

وإذا كان عضو لجنة جائزة غونكور لهذا العام باتريك رمبود قد أجمل القضية عندما قال إنه يبدو أن عضو البرلمان المذكور 'يخلط بين جائزة غنكور ولقب ملكة جمال فرنسا'، فإن عضوا آخر في اللجنة هو الطاهر بن جلون (الذي كان أول كاتب عربي يفوز بالجائزة عام 1987) قد استبق هذا الجدل كله، نافذا إلى العمق، عندما قال يوم إعلان فوز ماري ندياي 'إننا قد كافأنا بهذه الجائزة منجزا بل عالما أدبيا، وأسلوبا كتابيا بهيّا. هذا فضلا عن أن هذا المنجز هو رد ممتاز على (الوزير) أريك بسون الذي يضنينا ويصمّ آذاننا بالهوية الوطنية...'