رمز الخبر: ۱۷۵۷۰
تأريخ النشر: 10:33 - 16 November 2009
الحجُّ عبادة وحركة وسياسة

عصرایران - لعلّ من أبرز خصائص الإسلام في تشريعاته العبادية والحياتية، هو هذا الشمول في النظرة إلى الإنسان، فيما يريد أن يحقّقه من غايات في تنمية شخصيته، وفي مسيرة حياته انطلاقاً من الفكرة الواقعية التي لا تنظر إلى الإنسان الكائن على أنه ذوبُعد واحد، ليمكن لنا أن نعالج أوضاعه من جهة واحدة، بل هو كائن ذو أبعاد تلتقي فيها الشخصية الفردية بالشخصية الاجتماعية من دون أن تسمح احداهما في خصائصها الذاتية بالانفصال عن الأخرى، كما يمتزج في داخلها الجانب الروحي بالجانب المادي، فليس هناك عنصر مادي تختنق فيه النفس في داخل الأسوار المادية، وليس هناك عنصر روحي تحلّق فيه النفس بعيداً بعيداً عن المادة، في حالة تجريدية رائعة... بل هي المادة النابضة بالروح أو الروح المنطلقة في حركة المادة.

وفي ضوء ذلك أكّد الإسلام على ممارسة الإنسان للحياة بشكل طبيعي واعتبر الانحراف عن ذلك خروجاً عن التوازن والاستقامة في انطلاقة الإنسان المسلم في الحياة، فقد جاء في بعض الكلمات المأثورة « ليس منا من ترك دنياه لآخرته ومن ترك آخرته لدنياه»، كما جاء في الحديث الشريف، «من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»، وقوله(ص): « لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها»... مما يعني أنّ العزلة عن الحياة لا تمثل قيمة كبيرة من قيم الإسلام في الحياة، كما أنّ الفردية المغرقة في ذاتيتها المختنقة داخل قضاياها الخاصة، تمثل ضدّ القيمة في السلوك الإنساني في نظر الإسلام.

وربما كان من خصائص هذه النظرة الشمولية للإنسان، أنّ الإسلام يريد لأيَّة قضية من قضايا الإنسان، ولأيّة ممارسة من ممارساته، أن تتحرك في خط القضايا والممارسات الأخرى، بحيث تكمّل نقصاً فيه، أو تسدّ فراغاً في وجوده... فإذا تحرّك الإسلام في خط التربية الفردية لحياة الإنسان، فإنه يريد من خلال ذلك أن يختار له من الصفات الكريمة ما يرفع مستوى إنسانيته، ويحقق له الشخصية الخيّرة في الحقل الاجتماعي، فلا قيمة للعلم مهما بلغت درجة صاحبه فيه، إذا لم يرتفع بالإنسان إلى مستوى العطاء الذي يفتح فيه الإنسان من نفسه مدرسة للآخرين ويحقّق للحياة من فكره خبرةً واسعة تمنحها فرصة النّمو والتقدم والازدهار، ولا قيمة للقوّة إذا لم تستطع أن تتحول إلى عنصر من عناصر القوّة التي تنقذ الآخرين من عوامل الضعف الإنساني.. وهكذا يجد الإسلام في الكمال الفردي الإنساني مفتاحاً للدخول إلى الكمال الإنساني الاجتماعي... ويوحي بالفكرة التي تعطي للخصائص الأخلاقية قيمتها الكبيرة، إذا استطاعت أن تحقق للإنسان ذاته في حركته في قلب المجتمف وترفض منح القيمة للّذين يمارسون عمليّة النمو في العزلة البعيدة عن الحياة.

وقد أراد الإسلام أن يثير هذه النظرة الشمولية في تشريعه للعبادات... فقد جاء الإسلام إلى الحياة، والتقى بالنظرة الروحية التي تعتبر العبادة شأناً من شؤون السماء ولا علاقة لها بالارض فليس من المفروض للعبادة في قيمتها الروحية أن تحقق هدفاً كبيراً تتحرك على أساسه في شؤونها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل كلّ دورها ومهمتها، أنّها ترتفع بالروح الإنسانية إلى الله في غيبوبة روحية خالصة، يعيش فيه الإنسان روحانية الخشوع والخضوع والعبودية لخالقه، فيحس معها بالسعادة والنشوة والامتداد في أجواء المطلق والقرب من الله.. وبذلك كانت الرهبانية مظهر السمّو في الروح والإخلاص في العبادة لأنها تعزل الإنسان عن كل زخارف الحياة وشهواتها ومشاكلها وقضاياها الصغيرة، وتربطه بالله...

وبدأ الإسلام يغيير هذه النظرة إلى العبادة من خلال تغييره للنظرة إلى دور الإنسان في الحياة... فإذا كان الإنسان خليفة الله في الأرض، وإذا كانت الأرض هي الساحة التي يريد الله لعباده أن يحققوا فيها إنسانيتهم في خطّ السمّو الذي ترسمه لهم رسالاته ويخططوا في جوانبها برامجهم في شؤون النّمو والتقدّم والازدهار على أساس سنن الله في الأرض... فإنّ معنى ذلك أنّ الدور الإنساني في رعاية حركة الحياة وإدارة شؤونها وتخطيط مراحلها وبرمجة أهدافها ليس بعيداً عن ارادة الله ومحبته ورضاه بل ربّما كان في القرب من الله، والتأكيد على عمق عبوديته له - فيما تمثله العبادة - باعثاً على تحقيق هذه المعاني في نفس الإنسان وحياته بطريقة أفضل، وبإخلاص أكمل...

وقد أعطى الإسلام العبادة في هذا الاتجاه معناها الجديد، وطابعها المميّز ودورها العملي، فلم تعد مجرد حالة وجدانية روحية ذاتيتة يعيش فيها الإنسان معه ربّه، بل تحولت إلى قاعدة من قواعد التربية التي تتنوع فيها الممارسة لتحقق للإنسان أهدافاً عملية، في حركة شخصيته، وفي مجرى حياته العامّة والخاصة... فأصبح الإنسان يعيش فيها مع ربّه، ليلتقي ـ من خلاله ـ بحياته، فيملأها بكل المعاني والأهداف والقيم الكبيرة التي يحبها الله ويرضاها، ويحب الناس الذين يعيشونها في عمق الروح، وفي امتداد الحياة كما يوحي بذلك الحديث المأثور والشريف «الخلق عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله».

فإذا التقينا بالصلاة في الإسلام فإننا نجدها في القرآن الكريم وسيلةً من وسائل تنمية الشخصية في خط الخير والصلاح والسمو الإنساني فيما يمثله خط الابتعاد عن الفحشاء والمنكر فيما ورد من قوله تعالى: (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر...) وفيما يوحي به الحديث الشريف «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلاّ بُعداً... وفيما عبر عنه قوله تعالى: (فويلٌ للمصلّين* الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) مما يوحي بأنّ الصلاة تدخل في قيمتها الدينية في عمق الحياة الفردية والاجتماعية، بقدر ما يتعلق الأمر بالقيم الإيجابية والسلبية التي تحققها الصلاة في حركة الحياة للإنسان... سواء في ذلك ما يمارسه الإنسان في حقله الفردي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، انطلاقاً من شمول كلمة الفحشاء والمنكر لكل الأوضاع السلبية، التي يريد الإسلام للإنسان الابتعاد عنها في جميع هذه الأمور، فلا قيمة لصلاة الطغاة والمتكبرين والظالمين والمتعاونين معهم، والخائنين لأمّتهم ولدينهم، كما لا قيمة لصلاة السارقين والكذابين والزناة والمغتابين والنمّامين والآكلين للحرام من مال أو طعام... لأنّ الصلاة لم تحقق للإنسان شيئاً عملياً في خط الاستقامة أو البعد عن الانحراف... الأمر الذي يجعل الناس لا يُخدعون بصلاة المنحرفين عن الإسلام في قيمته وشريعته، فيبتعدون بذلك عن السذاجة والبساطة في تقديرهم للأمور، في مواجهتهم للواقف فإذا رأوا إنساناً مسؤولاً يؤدي صلاته في خشوع فعليهم أن ينتظروه ليخرج من المسجد وينفصل عن أجواء الصلاة، وينتقل إلى مجالات الحكم والسياسة والإدارة ليعرفوا ـ من خلال ذلك ـ كيف تمتّد الصلاة داخلَ حياته في هذه المجالات، أو كيف تبتعد عنها تماماً، ليحدّدوا موقفهم على أساس ذلك كما ورد في الحديث المأثور عن أئمة اهل البيت، الذي يرفض أن يكون طول الركوع والسجود مقياساً لمعرفة الرجل; لأن ذلك ربما يكون جارياً مجرى العادة التي يستوحش الإنسان إذا تركها، واعتبر المقياس بدلاً من ذلك صدق الحديث وأداء الأمانة ; لأنهما يدخلان في عمق الشخصية الإسلاميّة... فإذا التقينا بالصوم نجد أنّ الله جعله فريضة يحقق للإنسان من خلالها شخصيته التقيّة التي تقف عند أبواب الحرام المفتوحة أمامها فلا تدخلها، كما يؤكد فيها الإنسان حسّه الإنساني ومشاعره الروحية، والاجتماعية... عندما يجد طعم الجوع والظمأ في إحساسه بالصوم; فيتذكر جوع الجائعين وظمأ الظامئين فيفهم معنى مشكله الجوع والظمأ من موقع المعاناة الذاتية، لا سيما إذا كان غنيّاً لا يعيش الحاجة إلى الأشياء من خلال حياته العادية ; لأنه إذا أراد شيئاً حصل عليه، وهكذا كان دور الصوم إنسانيّاً اجتماعيّاً إلى جانب الدور الروحي الذي يحقق فيه الإنسان علاقته الروحية بالله... ومن الممكن للإنسان أن يتعلم من الصوم: الرفض العلمي لكل الأوضاع المنحرفة في الواقع السياسي والاجتماعي اِنطلاقاً من إرادته الإسلامية القويّة التي ترفض الحرام في العمل الفردي; لترفضه في نهاية المطاف في الواقع الاجتماعي والسياسي العام.