رمز الخبر: ۹۱۷۰
تأريخ النشر: 14:31 - 02 January 2009
د. عبد اللطيف الحناشي

 

يبدو أن الآلة العسكرية الصهيونية ذات النزعة العنصرية والفاشية لا تعرف الهدوء ولا تعرف غير العنف والقتل سبيلا للحياة. فها هي تجدّد هوايتها الطبيعية المفضّلة بعد سنتين ونيّف من مجازر لبنان وترتكب المجازر من جديدة على غزة هذه المرة، وذلك بعد حصار مشدد استغرق سنة ونصف السنة عاش فيه الفلسطينيون ظروفا إنسانية صعبة بل كارثية من الخنق والتجويع والتعطيش وقطع الكهرباء وقتل المرضى..

وعكس ما كان يبدو، فلم تسلم الضفة الغربية بدورها من الحصار وإن بأشكال وطرق أخرى إذ تواصل الاستيطان وعمليات مصادرة الأراضي واعتقال القيادات واغتيال البعض منها إضافة إلى هجمات المستوطنين ضدّ السكّان وممتلكاتهم على مرمى ومسمع من قيادة رام الله برغم علاقاتها الودية بالحكومة الإسرائيلية..

ورغم كل ذلك تمكنت حركة حماس وبقية الفصائل المقاومة وسكان غزة من الالتفاف على الحصار الاقتصادي والسياسي المفروض على القطاع عربيا وإسرائيليا ودوليا، الأمر الذي أثقل مسؤولية إسرائيل والدول العربية خاصة بعد ازدياد تعاطف الرأي العام العربي والغربي عموما تجاه حماس وسكان القطاع، وهو ما مكّن من محافظة الحركة على مكانتها ومصداقيتها في مواجهة الأنظمة العربية المحافظة مقابل تردد محمود عباس وضعف أدائه السياسي أمام الإسرائيليين، وتدني تمثيليته حتى في الضفة الغربية.

وكانت إسرائيل قد مهّدت لعمليتها الإجرامية الجديدة باعتماد أسلوب الخداع والتمويه والتضليل، إذ أشارت مصادر من حماس إلى أن بعض المسؤولين العرب قد أفادوها بأن التهديدات الإسرائيلية ليست سوى تصريحات انتخابية جوفاء، وأن إسرائيل عازمة على فتحِ المعابر لأسباب إنسانية وهو الأمر الذي حصل فعلا..

ثم أعقبتها بحملة دبلوماسية موسعة إذ وجهت وزيرة الخارجية ليفني رسائل إلى كل من أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون، وإلى الرئيس الدوري لمجلس الأمن، كما نقلت البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية رسائل مماثلة إلى رؤساء الدول المعنية وخصوصا قادة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وانصب السعي الاسرائيلي باتجاه تأمين المحيط العربي وتحقيق الدعم الضمني للعملية. ويذهب الكثير من المحللين أن إسرائيل لم يكن بإمكانها شنّ مثل هذا العدوان الوحشي البربري بهذه الجرأة على القطاع لولا توفّر مظلة من أصدقائها العرب أساسا.

وكانت وزيرة الخارجية الصهيونية تسيبي ليفني قد زارت القاهرة بعد يوم فقط من إعطاء المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية في إسرائيل الضوء الأخضر لشن عمليات عسكرية على القطاع، وصرحت من هناك أنها أبلغت دولاً عربية بشكل مسبق بالعملية العسكرية في قطاع غزة، فكانت جريمة الإبادة هذه بأيدٍ إسرائيلية لتلبية رغبة سياسية لعدة أطراف عربية، كما أفادت نفس الوزيرة أن ما تفعله إسرائيل إنما يعبر عن احتياجات المنطقة.

ويظهر أن الكثير من الدول العربية، وخاصة مصر، قد أرهقها سلوك حركة حماس وكذا الأوضاع في غزة، وهي لا تتردد في القول إن الحركة هي أداة بيد دمشق وطهران. وكان الكثير من الملاحظين قد أشاروا إلى العلاقة بين زيارة وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني إلى مصر وبدء المجزرة الإسرائيلية الجديدة، بل أن صحيفة معاريف الإسرائيلية تحدثت قبل أيام من المجزرة عن طلبٍ توجهَ به بعض المسؤولين العرب إلى الدولة الصهيونية بقطع رؤوس قادة حركة حماس إذا لم توافق الحركة على استمرار التهدئة، فيما تحدث نائب رئيس الحكومة الصهيونية حاييم رامون عن سعي اسرائيلي لإسقاط سلطة حماس بالتعاون مع دول عربيةٍ تعتقد أن ذلك يمثل هدفاً مشتركاً بينها إسرائيل.

أما على الجبهة الإسرائيلية فإن القيادة السياسية والعسكرية تحاول من خلال هذه العملية الوحشية استعادة هيبة جيشها التي أطاحت بها المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله في لبنان عدة مرات كان آخرها في حرب تموز ،۲۰۰۶ كما تراهن تلك القيادة- والبلاد على أبواب انتخابات تشريعية جديدة- على هذه العملية لتعطي مصداقية أكثر وأوسع لحزب كاديما، وخاصة حزب العمل، الذي فقد الكثير من شعبيته الانتخابية، لمواجهة اليمين واليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، وبالتالي قطع الطريق أمام وصوله إلى رئاسة الوزراء، ولا زال يسود الخوف، إسرائيليا بل إقليميا ودوليا، من إمكانية نجاح هذا الأخير حسبما أشارت إليه بعض استطلاعات الرأي الإسرائيلية وأكدته الكثير من التحليلات السياسية الإسرائيلية.

وقد أكد هذه الرغبة اجتماع الرباعية ومجلس الأمن مؤخرا. وكان الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريس، قد أكد بدوره لإحدى الصحف العربية أن مبادرة السلام العربية تصلح أساسا للمفاوضات بين إسرائيل والعالم العربي بأسره، لكن بعد تعديلها خاصة بما يتعلق بقضية حق عودة اللاجئين معتبرا أن الأوضاع قد أصبحت ناضجة للتوجه نحو السلام.. كما يشير بعض الملاحظين إلى أن إسرائيل تسعى من مضاعفة التوتر الإقليمي إلى (إحراج) إدارة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما ودفعه لاتخاذ مواقف حاسمة باتجاه قطاع غزة وسوريا وإيران.

ويظهر أن أقصر الطرق الموصلة إلى تلك الأهداف، حسب القيادة الإسرائيلية، هو إسقاط حكومة حماس، وبالتالي إنهاء سيطرة الحركة على قطاع غزة وهو هدف رئيسي تسعى إليه عدة أطراف فلسطينية أساسا، وعربية وإقليمية ودولية. وكان مبعوث الرباعية الدولية قد لخّص هذا الأمر بالقول إن (العدوان على غزة ليس بكارثة، فالحسم العسكري، وليس الحوار، هو الوسيلة للتعامل مع إرهاب حماس، والحصار لم يُجْدِ نفعا مع هذه المنظّمة، ولا بد من البحث عن وسائل أخرى لإنهاء الوضع الشاذ في غزة حتى تكون جزءا من الدولة ومن أنابوليس ومساره) ، وهو ما يعني فتح الطريق للتمديد لرئاسة محمود عباس.

أما أدنى ما تسعى إليه تلك الأطراف، على ما يبدو، فهو فرض التهدئة بالشروط والصيغ الإسرائيلية، أي تهدئة دون رفع للحصار مع ما يعنيه من استمرار غلق المعابر وإبقاء الحصار (الهادئ) على الضفة الغربية وصولا إلى فرض رؤية إسرائيل لحل الصراع.

لقد أثبتت التجربة أن إسرائيل لا ترغب في السلام وهي تعتقد أن تفوقها العسكري على العرب عامة والفلسطينيين خاصة كفيل بإخضاع هؤلاء إلى شروطها بقوة السلاح، غير أن حساباتها تلك سقطت منذ هزيمتها في لبنان سنة ۲۰۰۰ وسنة .۲۰۰۶. وإنْ تحاول اليوم استعادة سيناريو لبنان ،۲۰۰۶ رغم فشله، وصولا إلى الإطاحة بحركة حماس، فإنّ الأمور لا تبدو في صالحها أو صالح حلفائها من العرب هذه المرة أيضا..

وبالرغم من أن الوقت لا يزال مبكرا على استخلاص الدروس والنتائج مما حدث ويحدث فأنه بالإمكان القول إنه ورغم هول ما حدث فإن حماس وحلفاءها قد تمكنوا من الصمود والتماسك، وإن تفاعل وتضامن سكان الضفة الغربية والقدس وعرب ۴۸ سكان الخط الأخضر بكل قوة مع إخوتهم في القطاع يمثّل أولى بشائر اندلاع انتفاضة فلسطينية، كما أن حملات التنديد بجرائم إسرائيل والتضامن مع شعب غزة التي انطلقت من مختلف أرجاء العالم عقب المجازر الوحشية قد أعادت الحيوية لحركة التضامن الدولي مع قضية الشعب الفلسطيني التي أخذت في التراخي بعد اتفاقية أوسلو والصراع الداخلي الفلسطيني.

أما على الصعيد الفلسطيني، فإن محاولة إرغام الشعب الفلسطيني على التوقيع والاعتراف بالكيان الصهيوني والاستسلام لإرادته، لا تبدو واردة بهذه الطريقة، ولن تخسر غزة وقوى المقاومة فيها أكثر مما خسرت في السابق، فالأوضاع المعيشية مأساوية بطبيعتها، والحصار الاسرائيلي المصري متواصل، بل إن مواصلة العدوان الاسرائيلي البري والبحري والجوي واستهداف المدارس والجامعات والمساجد والجوامع ومقرات الشرطة ومساكن القيادات سيضاعف من التفاف الشعب حول حماس وحول خياراتها، وستكون السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس أول المتضررين من هذا العدوان الوحشي.

أما إقليميا، فقد يترتب على هذا العدوان المزيد من التوتر وحتى الانفجار، فالمظاهرات التي خرجت في القاهرة وبقية المحافظات المصرية والأردن واليمن وعدة عواصم عربية كانت نوعيّة بحجمها وأساليبها وشعاراتها. ولا يبدو انتقال شرارة تلك الاحتجاجات إلى مناطق عربية أخرى مستحيلا وقد تكون أسرع مما يتصوره البعض بل يمكن أن يأخذ الأمر أشكالا أخرى.

أما أهم النتائج التي ستتولد عن هذه الجريمة الجديدة على المستوى السياسي، فهى بدون شكّ تلاشي خيار السلام حتى بصيغة (المبادرة العربية) بعد سقوط مصداقية أصحابها وتورط البعض منهم في جريمة العدوان، وإن بتفاوت وبأشكال مختلفة، ومقابل ذلك سيتعزز خيار المقاومة التي ستجد في انتصارات طالبان والمقاومة العراقية واللبنانية، بغضّ النظر عن الحامل الأيديولوجي، مثالا تعزز من خلاله صواب نظرتها للأمور.

وبعد كل ممارسات إسرائيل العدوانية والوحشية ضد العرب وسكوت الأنظمة العربية وتواطؤها الضمني أو المباشر سيصبح أمر البحث عن أسباب سيادة أفكار التطرّف والإرهاب في العالم العربي عبثيا، فممارسات إسرائيل تمثّل في الواقع مصنعا حقيقيا لتوليد تلك الأفكار وتفريخها، بل وإعطائها شرعية وإن كانت ظرفية وزائفة.
العرب - لندن