رمز الخبر: ۱۵۷۶۰
تأريخ النشر: 15:43 - 22 September 2009
محمد بن زكور
حين بدأتُ دراستي الجامعية في العام 1991 بجامعة أراسموس بروتردام حصلتُ في الحال على نصيحة حكيمة في أول محاضرة اتلقاها من استاذنا البرفيسور رينغلينغ، أي والله هذا اسمه الحقيقي، حيث سألنا إن كنا نعرف قانوني رينغلينغ الاثنين، فلما أجبنا بالنفي واصل قائلا:

النصيحة الاولى: احرصوا على قراءة الصحف.
النصيحة الثانية: لا تصدقوا شيئا مما يـُنشر فيها.

في ما بعد اتضح لي من خلال مسيرة حياتي الاكاديمية أن رينغلينغ قد لخص لنا زبدة ما هو مهم في التحصيل العلمي ومجال المعرفة.
 
العلم الحقيقي ينأي بنفسه عن حماقات المعاش اليومي، فالعلم لا يلبس عوينات بزجاج ملون، العلم يطرح الاسئلة الحرجة المستفزة ويعري التابوهات جاعلا اياها موضوعا للنقاش. العلم يشكك في كل المسلمات ويتحلى بجرعة صحية من الشك تجاه كل ما هو بديهي  سواء كان في قاعات المجالس البلدية أو في أعمدة الصحف.
 
إن قال صحفي : هذا الكوب يحوي ماء. يقول العالم: يجب علي أن أتذوقه أولا، ليأخذ منه جرعة، من ثم، يقول على اثرها: طعمه بالتأكيد مثل الماء ولكن علي أن اختبر ذلك في المختبر لأتأكد من نسبة ثاني أوكسيد الهيدروجين فيه.

إذا قال السياسي: هذا المسلم إرهابي تجب محاكمته. يقول العالم: هل هو مسلم بحق؟ وماذا تعني بإرهابي في الحقيقة؟
 
بهذا المعني ، إذا نادت الصحافة والساسة بضرورة طرد أستاذ جامعي بدعوى أنه يعمل لدى محطة تلفزة تتلقي تمويلها من نظام فاسد يستخدم القوة والقمع غير المبررين تجاه شعبه، فإن السؤال الاول الذي يرد هو: ما هو محتوى عقد العمل الذي يعمل بموجبه هذا الاستاذ الجامعي؟
 
وهل يوصف نظام ما بالفساد لأنه ينتج أسلحة كيماوية، مثلاً؟ هل تم إثبات هذه الواقعة في الاصل؟ ولماذا يـُسمح للبلد سين بانتاج أسلحة كيماوية ولا يسمح للبلد صاد بانتاجها؟ وإذا كان استخدام العنف ضد المواطنين يـُعدّ هنا معياراً فالأحرى بالجامعة قطع جميع علاقاتها مع الصين وروسيا ومصر والسعودية والمغرب وايطاليا وسوريا، اليس كذلك؟

كما قالت الجامعة في تبريرها لفصل طارق رمضان إنه تعاون مع محطة تلفزة متورطة في نشر معلومات مغلوطة حول أحداث العنف في إيران.
يا لها من حجة ألمعية! وهل هناك محطة تلفزة في العالم لا تفعل ذلك؟
  
تقول جامعة اراسموس بروتردام في معرض تسبيبها للفصل أن محطة التلفزة التي يعمل لها طارق رمضان سمت الطلاب الايرانيين المتظاهرين بالمتمردين، فهل لي أن أذكر أن المؤسسة الهولندية للإرسال تسمي في نشراتها الإخبارية الفلسطينيين الذين يرمون بالحجارة والاسهم النارية بالـ "الارهابيين"، بينما تسمي عمليات الجيش الاسرائيلي التي يستخدم فيها القذائف الصاروخية والفسفور الابيض "عمليات" أو "حملات تأديبية"، فهل يحق للجامعة ذاتها فصل استاذ من اساتذتها إذا ظهر على شاشة التلفزة الوطنية الهولندية؟
  
من ناحية أخري يظل السؤال المطروح هو إن كان من مهام الجامعات عزل نظام من الأنظمة. حين أتى أوباما وغيرمجرى السياسية الامريكية في ما يخص الشرق الاوسط وأختار طريق الحوار، حتى مع إيران ، نال نهجه التثمين والإعجاب وأطلق عليه لقب باني الجسور.
 
ولكن حين يختار أستاذ جامعي مثل طارق رمضان ذات النهج، بفتح حوار، عبر محطة تلفزة تمولها إيران، مع معارضين إيرانيين وشيعة وسنة وملحدين، للحوار حول مختلف القضايا الحياتية والفلسفية والفنية، يتم وصمه بكل ما يعن للخاطر، ويفقد في الحال موقعه كباني جسور ليتحول الى متآمر.
  
رجل العلم الحقيقي، باختصار، هو من يسعي لتقصي الحقيقة. الامر الذي لم تحرص عليه جامعة اراسموس في روتردام. في السابق كانت الكنيسة هي التي تحد من سلطان العلم وتضيق عليه المسالك أما في وقتنا الراهن فإن الوساوس والمخاوف الغوغائية هي ما يحد من سلطان العلم ونزاهته. ولا بدّ أن المفكر ورائد الفكر الإنسانوي دسيديريوس ايراسموس يتقلب ثلاث مرات في قبره، مما آل اليه الحال.
 
* أثار المفكر الإسلامي، السويسري- المصري، طارق رمضان مؤخراً جدلاً في الأوساط الإعلامية والسياسية والأكاديمية في هولندا. كان رمضان يعمل مستشاراً في بلدية روتردام لشؤون التعدد الثقافي والاندماج، وأستاذاً زائراً في جامعة أراسموس- روتردام، لمادة المواطنة والهوية، وهو كرسي أستاذية تموله البلدية. لكن بلدية روتردام قررت الشهر الماضي إنهاء عقده معها، وتبعتها الجامعة بعد أيام قليلة أيضاً، بحجة عمل رمضان في قناة تلفزيونية إيرانية تابعة للدولة.
 
* محمد بن زكور صحافي وناشط هولندي من أصل مغربي.
 
نقلا عن اذاعة هولندا العالمية