رمز الخبر: ۱۶۴۵۱
تأريخ النشر: 10:29 - 15 October 2009
راشد الغنوشي
عصرایران - هل يعني تأكيد وثاقة الصلة بين الدين والسياسة بين الدين والدولة في الإسلام، التي تمثل الركن الركين في إيديولوجية الحركة الإسلامية المعاصرة، أن نصوص الوحي كتابا وسنة وهي المصدر الأعلى للتشريع قد حملت نظاما سياسيا لدولة محدد المعالم لا يسع المسلم غير الإيمان به وموالاته على غرار محكمات الدين العقدية والشعائرية؟ أم أنه ليس في المجال إلزام، وأن المسلم إذا قام بشعائر دينه فليس يضيره أن ينتمي إلى أي نظام يحترم ذلك؟! ما هو بالتحديد نوع العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام إذا كان مسلّما وجود علاقة خصوصية بينهما تختلف عن ديانات أخرى ولا يمكن أن تسعها علاقة الفصل المتعارف عليها كما تبلورت في ثقافة الحداثة أو العلمانية المعاصرة وبخاصة في صيغتها اليعقوبية الفرنسية؟ (د. رفيق عبد السلام: العلمانية والدين والديمقراطية).

أ‌- رفعا لهذا اللبس أورد المحقق الكبير د. محمد عمارة خلاصة لما انتهى إليه القانوني الكبير صاحب كتاب "الخلافة" الدكتور عبد الرزاق السنهوري: من أن الإسلام يمتاز بأنه دين ودولة، وقد أرسل النبي لا لتأسيس دين وحسب بل لبناء قواعد دولة تتناول شؤون الدنيا، فهو بهذا الاعتبار مؤسس الحكومة الإسلامية كما أنه نبي المسلمين, هو بصفته مؤسس حكومة كانت له الولاية على كل من كان خاضعا لها سواء كان مسلما أو غير مسلم.

وبوصف كونه نبيا لم يكن يطلب من غير المسلمين من الذين تركهم على دينهم الاعتراف بنبوته. من هنا وجب التمييز بين الدين والدولة. وإن كان الإسلام يجمع بين الشيئين. وفائدة هذا التمييز أن مسائل الدين تدرس بروح غير التي تدرس بها مسائل الدولة، والفقهاء أدركوا أهمية هذا التمييز فوضعوا أبوابا للعبادات وأبوابا للمعاملات وبذلك فرقوا بين المسائل الدينية وبين القانون بمعناه الحديث.


وما دام للمسلمين قانون إسلامي فلديهم حكومة إسلامية. ولما كانت الأحكام الدنيوية تتطور وكان لا بد من انقطاع الوحي بقبض الرسول عليه السلام أصبح محتما أن يكون للمسلمين مصدر ثالث للتشريع هو إجماع الأمة، من طريق وجود طائفة ينوبون عن الأمة تملك قوة التشريع في حدود الكتاب والسنة. والخليفة لا يملك من سلطة التشريع شيئا ولا يشترك فيها والخليفة ليس حاكما مدنيا وحسب بل هو أيضا الرئيس الديني للمسلمين ولكنه لا يملك سلطة روحية (الإسلام والسياسة ص93).

ب‌- مفكر إسلامي آخر من رجال القانون هو الدكتور محمد سليم العوا تصدى هو كذلك لرفع اللبس عما يمكن أن يحيط بشعار "الإسلام دين ودولة" من ظلال ثيوقراطية مخيفة فتساءل: ماذا يعني أن الإسلام دين ودولة؟

"إن إثبات وجود نظام حكم محدد المعالم والتفاصيل في مصادر الإسلام الرئيسية القرآن والسنة أمر دونه خرق القتاد، فالقرآن والسنة لا يتضمنان نصا عن كيفية اختيار الحكام وكيفية محاسبتهم وكيفية عزلهم ولا عمن يعينهم على ولايتهم ولا في المصدرين نص خاص بالسلطة القضائية ومن يتولاها ولا نجد تحديدا لمن يتولى التشريع فيما لا نص فيه، لذلك لجأ المسلمون السابقون إلى سد هذه المناطق الفراغ بالاجتهاد على نحو ما بين الجويني بقوله لا مطمع في وجدان نص من كتاب الله في تفاصيل الإمامة، فحمل عبارة (دين ودولة) عندما يوصف بها الإسلام لا يصح إلا على محمل واحد هو وجوب اجتهاد العلماء المؤهلين لذلك في المسائل السياسية مما يتصل بسلطات الدولة الثلاث، لكن المضمون الصحيح للعبارة المذكورة هو أن الإسلام دين يتعبد به ويتقرب به إلى الله بفعل مأموراته وترك منهياته ويطلب الثواب الإضافي بالحرص على مندوباته ونوافله، وهو شريعة قانونية تحكم تصرفات الناس وأفعالهم من بيع وشراء وزواج وطلاق وميراث ووصية وجرائم وعقوبات.. بحيث لا يكون بالمسلمين حاجة لاستيراد القانون من غيرهم، فالمقصود بكلمة دولة في هذا المقام هو الشريعة التي، أقلها نصوص صريحة قطعية الورود والدلالة، وأكثرها ظني فيهما أو في أحدهما، والفقه المبني على النوعين هو اجتهاد بشري عرفه الغزالي بأنه طلب الوسع بأحكام الشريعة، فيكون المراد من كون الإسلام دينا ودولة هو قبول المرجعية الإسلامية العامة التي تسمح بتعدد الآراء وتنوعها في الشأن السياسي كما في كل شان إسلامي آخر وبذلك يتجنب المسلم الوقوع في القول بالفصل التام بين الدين والسياسة. كما يتجنب الوقوع في وهم أن النظام السياسي المقبول إسلاميا هو نظام بعينه لا يصح الاختلاف حوله ولا الاجتهاد في تفاصيله".

وليس في نظر العوا ملزما للحاكمين والمحكومين في المجال السياسي -والحال أن المسالة السياسية كلها اجتهادية- غير "جملة من القيم نطقت بها نصوص الوحي مثل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيمة الشورى وهي واجبة على الحاكم ابتداء وانتهاء. وقيمة العدل في الحكم وفي القضاء والنهي عن الظلم، وكذا الأمر بحرية الرأي السياسي وسائر الحريات، ولا تقل عن ذلك قيمة المساواة ومساءلة الحاكم باعتباره ليس فوق المساءلة.. إلى هذه القيم الإسلامية الملزمة نحتكم ونحن ندير النظر في كيفية تأسيس النظم السياسية المعاصرة على هدي الإسلام وتعاليمه، ولا باس علينا إن نحن أخذنا بالوسائل التي سبقنا إليها غيرنا من الأمم والشعوب". (النظام السياسي في الإسلام 103).

وهكذا يتلخص من كل ما سبق:

- أن الدولة في الإسلام مطلب اقتضاه الدين بما تضمنه من شرائع وجاء به من قيم، ولا يمكن أن تأخذ طريقها إلى التاريخ دون وجود نظام سياسي يقوم على إنفاذها، وهو ما يوجب على المسلمين بذل الوسع في تأسيس هذا الجهاز إن لم يكن موجودا كما فعل المسلمون بزعامة نبيهم صلى الله عليه وسلم، أو العمل على إصلاحه في حالة وجوده، حتى يتواءم وأداء المهمة: إنفاذ الشرائع وفق مقاصد الإسلام العليا وقيمه في العدل والشورى والمساواة.

- أن هذه الدولة اقتضتها أيضا ضرورات الاجتماع البشري، بما لم تبرأ معه من ممارسة القهر وأن تكون وعاء لصراعات القوة على النفوذ والثروة، فهي منتوج بشري لا يملك قداسة ولا عصمة ولا تأمينا ضد الميل الطبيعي لدى القائمين عليها باعتبارهم بشرا إلى الانفراد والاستئثار، وليس لها من شرعية غير ما تستمده من شعبها، والإسلام في مقصد أساسي من مقاصده مسعى للارتقاء بهذا الجهاز الخطير إلى أفق إنساني أخلاقي يؤنّسه ويهذبه ويسخره لخدمة مقاصده الاستصلاحية.

قال تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور" (الحج/40) داعيا إلى الإفادة من كل حكمة أنضجتها تجربة حضارية في تقييد سلطان الدولة بتوزيع سلطاتها على أوسع نطاق وإطلاق الحريات بمثل ما انتهت إليه التجربة الديمقراطية. وتمثل الشريعة مما تمثله قيدا على إرادة الإطلاق لدى الحكام، العدو الألد لأعظم مقاصد الإسلام: إقامة العدل ودفع الجور.

- أن هناك تمييزا ضروريا بين الإسلام باعتباره دينا يتعبّد به وبين الإسلام باعتباره شريعة وقانونا، بما يجعل الحمل المشروع لتعريف الإسلام بأنه "دين ودولة" أنه دين وقانون أو دين وشريعة، أو دين تعضّده الدولة بحسب تعبير ابن عاشور.

- هذا التمييز بين الشريعة وهي القانون الإسلامي للدولة وللمجتمع وللأفراد وبين الدولة باعتبارها مؤسسة للقوة تتشكل من أجهزة يديرها أشخاص تصدر عنهم أوامر وسياسات هي صناعة بشرية معرضة للوقوع في الأخطاء والمظالم، هذا التمييز يفسح المجال أمام حرية الرأي والاجتهاد والنقد والتعدد بكل أنواعه، بما في ذلك ظهور أنماط من الدول متعددة ومختلفة في مدى قربها أو بعدها من العدالة، يلحقها كلها الوصف الإسلامي ما دامت مستندة إلى مرجعية الإسلام التشريعية، وهو غير كاف ليشكل ضمانا لالتزامها العدل في كل الأحوال ولا هو عاصم لها من الوقوع في الظلم والتجبر، ما لم يتم تفعيل جملة مقاصد الإسلام وقيمه في صياغة نظام سياسي يترجم تلك القيم والمقاصد ويفيد من تجارب الماضي والحاضر في الحد من الميل الطبيعي للملك إلى الانفراد (ابن خلدون).

- لا يكفي مطلب تطبيق القانون الإسلامي (الشريعة) في معاملات الناس بيعا وشراء وزواجا وطلاقا، في تحرير مجتمعاتنا مما ترزح تحته من استبداد ووضعها على طريق النهضة ما دام الهرم مقلوبا أي ما دام السيد وهو الشعب هو المسخر لأهواء الحاكم، خائفا منه، يترقب أبدا ويتوقى بطشه، طامعا في مكرماته عبر التملق والخنوع.

إن عتبة الولوج إلى حياة التحضر وتجاوز البربرية ومجتمعات الحيوان القائمة هي الانتقال من سيادة منطق القوة والغلبة –وهو الحاكم اليوم في كل مجتمعاتنا على أنحاء مختلفة– صوب إعلاء منطق الحق والعدل والقانون (برهان غليون مقالة في الجزيرة نت).

مطلب تطبيق الشريعة بمفاهيمها السائدة التي يغلب عليها الزجر، لا يكفي بل قد لا تكون له علاقة أصلا بل قد يكون صارفا للأنظار عن المشكل الحقيقي الذي تتلظى به أمتنا مند قرون طوال، مشكل الاستبداد وإقصاء الأمة عن شأنها أي عن ممارسة سيادتها وقوامتها على من توظفهم من الحكام لخدمتها، عبر إرساء وتأصيل نظام سياسي يحقق للأمة استعادة سلطانها المسلوب، وإدراج ذلك ضمن أوليات الشريعة.

وليس لذلك من طريق في عصرنا غير تعبئة الحركة الإسلامية وتحشيد كل القوى الشعبية وراء مشروع للتغيير الديمقراطي، فالديمقراطية في عصرنا هي التي استأصلت شأفة الاستبداد وأعادت للشعوب سلطانها.

- خطر استمرار هذا الغموض: هذا الغموض في التمييز بين الشريعة قانونا وبين أنظمة للدولة مختلفة يمكن أن تطبق الشريعة في إطارها وحتى تلك البالغة حدا بعيدا من الظلم، هو بعض ما حمل –فيما نحسب- الشيخ عبد الرازق، وقد ضاق ذرعا بالأنظمة المتجبرة الحاكمة باسم الشريعة، على نزع كل صفة دينية عن تلك الدول المنسوبة للإسلام، حتى يجردها من كل قداسة تلتحف بها ومن مبررات وجودها وييسر ويشرع باب الانتقاض عليها.

والحق أنه ليس لنظام الخلافة الذي ساد تاريخنا ما يفرض على المؤمنين تقديسه أو التستر على مظالمه وإقصائه لسلطان الأمة واستبداده به دونها، وليس فيه ما يسوغ التبشير به مجددا على ما كان عليه سلطانا فرديا لا يتورع عن البطش بمعارضيه. وفي ذلك بعض ما يسوغ ثورة الشيخ عبد الرازق عليه، إلا أن الرجل قد تورط من أجل ذلك في أخطاء منهجية شنيعة من مثل نفي الصفة السياسية عن عمل النبي عليه السلام. وإخراجه عليه السلام في صورة الواعظ، في استنقاص لعمله التأسيسي لدولة وأمة وحضارة. والذي أدى به إلى ذلك عدم التمييز المذكور بين الدولة والقانون (الشريعة) حتى أعطى انطباعا بأنه يشمل الجميع باعتراضه.

وهو نفس الخطأ القاتل الذي وقعت وتقع فيه الجماعات الإسلامية التي اتخذت من تطبيق الشريعة على ما هي عليه شعارها المركزي الأثير مثل طالبان والحركة الإسلامية في السودان، فلم يقدم لها ذلك أي ضمان من التورط في مظالم سياسية شنيعة من الانفراد والاستبداد والتنكيل بالمعارضين واجدة العون على ذلك من الجهاز الديني التقليدي الذي يعطي لـ"ولي الأمر" حسب مفاهيم الشريعة المتوارثة، صلاحيات تكاد تكون مطلقة، ما دام يعمل تحت لواء الشريعة.

ولعمري إن هذا الخلط ليس من شأنه إلا أن يدعم حجج المعارضين للشريعة، والخوف والتخويف منها، كما سيثمر إنتاج حركات بلا حد ولا عدد من جماعات التطرف والإرهاب وتمزيق الاجتماع الإسلامي شر ممزق، وذلك ما لم يرفع هذا اللبس وينقل الوعي الإسلامي الرشيد الأمة إلى ساحة المعركة الحقيقية في أمتنا ساحة الجهاد الشامل لتحرير ما تبقى من دار الإسلام تحت الاحتلال وبخاصة فلسطين، وقصره على الجهاد المدني السلمي الشامل ضد الاستبداد من أجل قيام دولة الشعب دولة العدل والحرية، دولة المواطنة، دولة الأمة نهاية، حيث يكون لمواطنيها يومئذ الحق في الاختيار بحرية كاملة نوع القانون الذي ستحتكم إليه في إطار مبادئ العدالة وحقوق الإنسان التي جاءت بها الرسل عليهم السلام وناضلت ولا تزال من أجلها البشرية."إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" رواه الحاكم وصححه الألباني في "الأحاديث الصحيحة".