رمز الخبر: ۱۹۷۱۵
تأريخ النشر: 10:27 - 14 January 2010
فالرباعيّة تُظلم بالتعريف العَروضي حين يحدّها بقياس أربعة شطور مقفاة بأنواع معيّنة (التام، والتام المردف، والأعرج)، لكن البلاغة تنقذها، حين تشيرُ إلى مفصلها الأصل الذي تدور المعاني حوله.
عصرایران - رباعيات الشاعر الايراني عمر الخيام تملك سحراً خاصاً لا تبدّده بل تزيده، كثرة الترجمات التي أشعل نارها الإنجليزي ادوارد فيتزجيرالد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وسرتْ عدواها إلى كثير من الشعراء والأدباء من العرب وغير العرب الذين راحوا يترجمونها في قالب شعري تارة، وقالب نثري تارةً أخرى، سواءٌ كانت تلك الرباعيات صحيحة النسبة إلى الخيّام أم منحولة عليه.

وكذا انشغل الواقعون في دائرة السّحر الخيّامي، بمعرفة الصحيح من المنحول، فكان القياسُ إلى مؤلّفات الخيّام العالم الرياضيّ والفيلسوف والفلكي، وكان القياس إلى السائد في عصره وقبله، من شعرٍ فارسي وعربي.

وإذا بدائرة السّحر تتسع، فكلّما صدرت ترجمة جديدة، تسلّل الشكل الشعري الجميل للرباعيّات إلى لغة جديدة، ذلك لأنّ نقل المعاني يحمل معه عالماً بأسره، يقول إن الرباعيّة التي تجري على وزن الدوبيت الفارسي، ليست قالباً بسيطاً يمكن التخففّ منه، بل لعلّها صورة فارسيّة لاتحاد المبنى بالمعنى.

فالرباعيّة تُظلم بالتعريف العَروضي حين يحدّها بقياس أربعة شطور مقفاة بأنواع معيّنة (التام، والتام المردف، والأعرج)، لكن البلاغة تنقذها، حين تشيرُ إلى مفصلها الأصل الذي تدور المعاني حوله.

والترجمة الجديدة عن الفارسيّة التي أنجزها الشاعر الإماراتي محمد صالح القرق، وصدرت عن دار المناهل في بيروت، تنحاز إلى مفصل الرباعية بقدر ما يسمح الشكل العربي؛ القصيد.

 فمقابل كلّ شطرٍ فارسيّ بيتُ شعرٍ عربي، وفي كلام آخر مقابل كلّ رباعيّة فارسيّة مربعةٌ عربيّة، ترويان معاً قصّة العلاقة بين العَروض العَربي والعَروض الفارسي؛ أضدّان هما أم ندّان؟.

ذلك لأنّ ترجمة محمد صالح القرق، ليست ترجمة شعريّة عادية، تأخذ المعنى من لغة إلى أخرى، إذ من الواضح أنها تبطنُ معرفةً بالترجمات الشعريّة العربيّة السابقة عليها، من أشهرها عن الفارسية ترجمة أحمد الصافي النجفي، وأحمد رامي، وعبد الحق فاضل)، مثلما تبطنُ معرفةً واسعةً بالخيّام ومدار قوله في الرباعيّات.

ولعل هذا ما أثار انتباه مقدّم الكتاب يوسف بكّار، فلفت النظر إلى اهتمام المترجم بـ(مفصل الرباعيّة وبؤرتها المركزية وفكرتها الرئيسة)، وكأنّ مفصلها يقابل (بيت القصيد) في العربيّة إن صحّ التعبير. وممّا لا شك فيه أن مقدّمة يوسف بكّار بلغت حدّاً راقياً في فنّ كتابة المقدّمات. وكيف لا؟ والبكّار عارفٌ عليمٌ بثلاثة أمور جوهريّة تتصل مباشرةً بموضوع الكتاب؛ فهو مكينٌ في العَروض ومؤلّفٌ فيه، ويجيد الفارسيّة ومترجمٌ عنها، فضلاً عن تأليفه ثلاثة كتبٍ عن رباعيّات الخيّام (الأوهام في كتابات العرب عن الخيّام، وعمر الخيّام والرباعيّات، والترجمات العربيّة لرباعيّات الخيّام: دراسة نقدية)، زدّ على هذا، فإن للبكّار تجربة لصيقة بترجمات الخيّام العربيّة، إذ حقّق ودرس ترجمة مواطنه الأردني مصطفى وهبي التّل (عرار) للرباعيّات.

ولا يظهرُ هذا الزّخم المعرفي إلا بصورةٍ لبقةٍ رقيقةٍ في مقدّمته، التي تجنح نحو التعريف بأمرين: خصوصيّة «الشكل» الشعري للرباعيّة، وخصوصيّة ترجمة محمّد صالح القرق. وكلا الأمرين مفيدٌ إلى حدّ بعيد، إذ يسمحان للقارئ بعقد مقارنات شبه عفويّة بين الرباعيّة والمربعة من جهة، وبين ترجمة القرق وترجمات أخرى شهيرة من جهة ثانية. وفي الجملة تصوّب المقدّمة الذكيّة القارئ وتوجهه نحو «زبدة القول» أو «زبدة الترجمة» إن جازَ التعبير.

فالخيّام هنا بترجمة القرق، متعدّد متجدّد، لا تحدّه التهم الجاهزة أو الأحكام المسبّقة التي سادتْ أحياناً نتيجةً للرباعيّات المنحولة عليه (تهمة الإباحية، الزندقة، التناسخية، الدهرية...)، فقد تأنّى محمّد صالح القرق في الاختيار، إذ ترجم مئتين من الرباعيّات التي تميلُ كفّة صحّة نسبتها إلى الخيّام، ولم يتمّ له ذلك إلا أن بعد أمضى زهاء تسع سنين في تدقيقها وترجمتها، فكانت النتيجة انعكاساً أقرب إلى الأمانة في نقل صورة الخيّام البهيّة المتفلّتة من الأحكام والتهم، والمشيرة إلى أجواء فارسيّة نعرفها ولا نعرفها في آن واحدٍ:
ومن لي بكوزٍ من الرّاح قانٍ
وديوان شعرٍ بغير مثيلْ
ونصف رغيفٍ من الخبز كيما
أسدّ به رمقي في المقيلْ
وكنتَ معي يا مليك الفؤاد
بأرضٍ فلاةٍ، وأنت الخليلْ
فذلك أحسن من كلّ شيءٍ
ومن عيش سلطان ملكٍ أثيلْ
فالانتقال من الرباعيّة إلى المربعة، يفرضُ على الشاعر أن يستوفي الشطر في بيتٍ، الأمرُ الذي قد يؤدّي إلى نوعٍ من (الحشو) الناجمِ عن مدّ زائدٍ للمعاني، وهو ما قد يمكر بالمترجم الشّاعر، فيدفعه إلى (الاستئناس) بتراكيب شعريّة عربيّة مألوفة، تملأ الفرق طولاً بين الشطر والبيت. وفي الجملة، تتغّرب الرباعيّة عن موطنها، وتنْزل في أرض القصيد منبتّة الجذور عن لغتها الأمّ. وهذا بالضبط ما لم يحدث في ترجمة القرق، الذي كان حريصاً في الابتعاد عن رجع الشّعر العربي الجميل، وتمّ له ذلك في رباعيّات تميلُ بسهولةٍ إلى شاعرين عربيين كبيرين، قيلَ إن الخيّام تأثّر بهما؛ أبو نؤاس وأبو العلاء المعري. إذ يظهر من الترجمة الجديدة أن اختيار لفظٍ دون آخر، يختزن معرفةً بالشعر العربي وفي دقّة مساربه، ويفطن إلى قوّة الكلمات في الإيحاء وفي التذكير بلغة القصيد آن تقترن ببعضها. فهو اختيار ذكيّ نبيه، يتجنّب خبث الكلمات التي طبعها المعري والنواسيّ ببصمة لا تُمحى، وهو اختيارٌ يدرك أن السّر في القِران. لذا جاءت التراكيب طازجةً في قصدها ومعانيها تغازل عن بعدٍ المعري تارةً:
لو علمنا كنهَ الحياة بحقٍ
وهو أمرٌ من شأنه التعتيمُ
لخبرنا سرّ الممات، وحزنا
بعض أسرار ما يخطّ العليمُ
أنت حيّ وما عرفتَ نقيراً
من وجودٍ قوامه مستقيمُ
كيف تغ دو بعد الممات خبيراً
بأمورٍ وأنت هشٌّ رميمُ
وتومئ من بعيدٍ تارةً أخرى للمليح النّواسي:
إذا ما كنت في صحوي ووعيي
فلا طربٌ لديّ بل الجحيمُ
وإن ما كنتُ في سكرٍ فإنّي
بلا عقلٍ على وجهي أهيمُ
وبين السكر والصحو استقرّت
هنالك حالةٌ، فيها أقيمُ
وهذي الحالة الوسطى بدا لي
لذيذ العيش فيها والنعيمُ
ومن الصحيح أن التراكيب في هذا المثال أو غيره، تبيّن كيفَ يتسرّب المعنى من شطرٍ إلى آخر، فلا يتوقف عند نهاية البيت، بل يسيلُ إلى البيت الذي يليه، ليصلَ إلى الختام ممتلئاً بالمعنى وبجمال التأويل.

وبذلك تخالفُ هذه التراكيب (سنّة) البيت الشعري إن صحّ التعبير، الذي يميلُ إلى إيقاف المعاني عند القوافي، لكن ذلك لا يعني مثلاً أن المترجم لا يسيطر على أدواته، بل على العكس، إذ تشيرُ هذه التراكيب إلى خصوصية هذه الترجمة العارفة بـ(مجازات الفارسيّة) وطرقها في توليد المعاني، والأهم العارفة بقوّة (الشكل) وتأثيره في ترتيب المعاني شطراً فشطراً. وثمة أثرٌ لطيفٌ لانحياز المترجم إلى دقّة الترجمة وأمانتها للرباعيّة، وهو لا يظهرُ فحسب في الحفاظ على مفصلها، بل يظهرُ كذلك عند الانتباه إلى البحور الشعريّة المستعملة هنا.

ويبيّن إحصاءٌ أوّلي غلبة البحور الآتية: الوافر، والخفيف، والرّمل والمتقارب، على البحور الأكثر شيوعاً عادةً كمثل الطويل والبسيط، التي نادراً ما نجدها في هذا الكتاب، ولعلّ هذه البحور الأقرب إلى الغناء والقصيرة نسبيّاً، تومئ من طرفٍ خفيّ إلى ما يجمع العَروضين العربي والفارسي.

فالرّمل والمتقارب متشابها الوقعِ في اللغتين، أمّا الخفيف والوافر فقريبان من تراكيب الهزج والمجتثّ، وهما بحران واسعا الانتشار في الشّعر الفارسي أكثر بكثيرٍ من انتشارهما في الشّعر العربي، وكأنّ الوشائج الخفيّة التي تجمع بين العَروضين، تظهر في هذه الترجمة الإبداعية:
ذلك الكوز - في كآبة حالٍ
كان مثلي متيّماً مستهاما
ذاب وجداً بفرع ذات جمالٍ
شعرها الليل، قد أظّل القواما
وكأنّي بعروة الكوز تحنو
فوق جيدٍ للكوز، طابت مُقاما
هي زندٌ لعاشقٍ قد أحاطت
جيد خوْدٍ حسناء تسبي الأناما
ومن الصحيح أنها ليست المرّة الأولى التي تقطعُ فيها الرباعيّات الطريق من الفارسيّة إلى العربيّة شعراً، لكنها من أجمل المرّات لأسباب ثلاثة: مقدّم الكتاب الفذّ يوسف بكّار، والطبعة الأنيقة الجميلة المزدانة بالرسوم التي تحتفلُ بمكانة الخيّام في الفارسيّة والعربيّة، ومترجم الرباعيّات، إذ إن محمّد صالح القرق فتح باب المجاز الفارسي عبر ألف رباعيّة ورباعيّة صقلتها ألف ترجمة وترجمة.