رمز الخبر: ۱۴۳۰۹
تأريخ النشر: 14:39 - 30 July 2009
د. سعيد الشهابي
عصرایران - ليس بعيدا عن الحقيقة الزعم بان (الديمقراطية الليبرالية) هي الشعار السياسي الاول الذي رفعه الغربيون في العقود الاخيرة، وحاربوا به الاتحاد السوفييتي الشيوعي، وإيران الاسلامية وكوبا الاشتراكية وكافة الدول التي كانت مصنفة ضمن انتماءات غير غربية. فعندما كان الاتحاد السوفييتي في اوج قوته كان الغرب يعتبر النظام الشيوعي عدوا للمشروع الديمقراطي والليبرالية الغربية.

وعندما أقيم في ايران نظام سياسي على اساس الاسلام انطلقت الحرب السياسية والايديولوجية والنفسية ضد طهران، وعلى مدى ثلاثة عقود شن الغربيون حربا ضد ما أسموه (الاسلام السياسي) الذي اعتبروه، وما يزالون يعتبرونه عدوا للديمقراطية الليبرالية. وفي إطار الحرب ضد الارهاب، طرح الغربيون مقولة (انهم ليسوا منا) ويقصدون بذلك افراد مجموعات العنف والارهاب.

وبرروا الحرب ضد الارهاب بانها تستهدف اولئك الذين يستهدفون الغرب بما هو غرب في اطار ايديولوجيته السياسية. وكثيرا ما وصف الرئيس الامريكي السابق، جورج دبليو بوش مجموعات الارهاب المنتمية لتنظيم القاعدة بانهم (يقفون ضد القيم الديمقراطية التي نؤمن بها ونطبقها). وقبيل شن الحرب ضد العراق في 2003 طرحت واشنطن مشروع (الشرق الاوسط الكبير) الذي تمثل الديمقراطية واحدة من دعاماته. وبعد الحرب التي اسقطت نظام صدام حسين تواصلت تلك النغمة بشكل أوسع. وقال المسؤولون الامريكيون ومن بينهم وزيرة الخارجية السابقة، مادلين اولبرايت ان بلادها كانت ترجح الامن والاستقرار في السياسة الخارجية على الترويج للمشروع الديمقراطي، وان واشنطن ادركت ان هذا الشعار لم يؤد الى نتيجة وان الامن والاستقرار لن يتحققا الا بترويج الديمقراطية في دول المنطقة. وقد كررت ذلك في كلمتها امام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في 26 شباط الماضي داعية الى (دعم الديمقراطية في العالم الإسلامي بطريقة لا تتسم بالضغط القوي، ولا تصل إلى حد الضعف الذى يجعل صوت واشنطن غير مسموع). فما المقصود من هذه الخطابات؟ وهل هي محاولات جادة لتطوير أداء الحكم في بلدان العالمين العربي والاسلامي ام شعار خطابي يهدف لاحتواء الغضب الناجم عن الدعم الغربي المتواصل لانظمة الاستبداد والقمع في المنطقة؟ ويبرز السؤال الجوهري الأهم هنا: ما مدى وفاء الغربيين لهذا الشعار؟

من خلال مراجعة السياقات التاريخية للتدخل الغربي في دول العالم الثالث يمكن ملاحظة عدد من الامور: اولها: ان الغربيين كانوا مستعمرين جشعين، يسعون لنهب ثروات البلاد الواقعة تحت الاحتلال، بدون تقديم اية مشاريع تنموية او تعليمية. لقد تأخرت حركة العلم في اغلب تلك الدول عقودا.

ثانيها: الاستعمار البريطاني فشل ايضا في اقامة منظومة سياسية حديثة لادارة شؤون البلاد التي كانت تنتظر تحررها من الاستعمار.

ثالثها: ان هناك تركة استعمارية مزعجة تتمثل بالخلافات الحدودية خصوصا بين دول مجلس تعاون دول الخليج الفارسي، اذ لم يهتم الاستعمار بترسيم الحدود بشكل مرض للاطراف المعنية. ولذلك نشأت الخلافات بين هذه الدول ولجأ بعضها الى محكمة العدل الدولية لترسيم حدوده. واذا كان الاستعمار البريطاني قد تعامل بهذه الطريقة مع دول الشرق الاوسط، فان تعامله مع الدول الاخرى لم يكن افضل كثيرا.

هذه النظرة للنظام السياسي الغربي القائم على (الديمقراطية الغربية) تحولت الى مشكلة بشكل تدريجي، ودفعت الرئيس الامريكي السابق للامعان في الحديث عن (فوقية) الاطروحة السياسية الغربية، رافضا ان تكون هناك بدائل لها او نسخ معدلة منها. واستمرت هذه النظرة الاستعلائية مهيمنة على اذهان الساسة الغربيين حتى الآن، الامر الذي يحول دون تطور نظام سياسي يهيمن على العالم ضمن ظاهرة (العولمة). ومع الاعتراف بان الديمقراطية الغربية لعبت دورا في استقرار اوروبا وامريكا وامنها وابتعادها عن الاضطرابات الداخلية، فانها اصبحت تنطوي على تناقضات خطيرة في جوانبها التطبيقية سواء على مستوى الداخل ام العلاقات مع العالم. فمثلا ما تواجهه ايطاليا هذه الايام من تناقضات اخلاقية مع رئيس وزرائها، سيلفيو بيرلسكوني، الذي انتشرت فضائحه الجنسية على اوسع نطاق وبشكل غير مسبوق من خلال بث تسجيلات صوتية مخزية، لا يمكن ان يوفر دعاية جيدة لهذه المنظومة الايديولوجية. فما قيمة المشروع الديمقراطي اذا كان بلا أخلاق؟ وما مصير المجتمعات التي تعتمد الديمقراطية الليبرالية مرجعية سياسية عليا وتتجاهل المرجعيات الفكرية والدينية والاخلاقية الاخرى؟ هذه الديمقراطية هي التي تسمح لبعض الساسة بوضع القيود الصارمة على الحريات الشخصية اذا انتمت لثقافة مغايرة. هذه الديمقراطية تستطيع التعايش مع نظام كنسي قادر على التكيف مع كافة الاتجاهات الاجتماعية وان تعارضت مع قيم الدين الاساسية، ولكنها لا تستطيع التعايش مع ظواهر دينية اخرى منطلقة من ثقافات وحضارات اخرى كظاهرة الحجاب والنقاب. فالكنيسة الكاثوليكية تواجه هذه الايام اتهامات خطيرة بوجود اعتداءات جنسية واسعة النطاق على الاطفال في الملاجئ ودور الرعاية الكنسية في جمهورية ايرلندا. فما المرجعية الاخلاقية للقسسة الذين ينتهكون قيم الدين ومبادئه بهذا الشكل المفضوح؟ ويزداد الامر خطرا عندما تطلق الكنسية مشروعا جديدا بقبول الشخصين المتعايشين واعتبارهما زوجين وان عاشا خارج قفص الزوجية، او كان لهما اطفال من خارج العلاقة الزوجية. هذه المبادرة التي اطلقت الاسبوع الماضي قوبلت بانتقادات لاذعة من بعض القسسة باعتبارها خطوة لتقنين العلاقات غير المشروعة واضفاء الشرعية عليها.

وثمة جوانب اخرى لا تقل اهمية عند الحديث عن ازدواجية المعايير لدى المنظرين للديمقراطية الليبرالية. من هذه الجوانب الانتقائية في التعاطي مع الممارسات السياسية للدول الاخرى. وثمة امثلة فاقعة لذلك. فمثلا ما يزال الغربيون يستهدفون ايران بدعوى تزوير الانتخابات الرئاسية العاشرة لصالح أحمدي نجاد. وبرغم عدم توفير ادلة ملموسة على ذلك، يعتبر الغرب تلك الانتخابات لاغية وغير مشروعة، وان كان قادرا في واقعه على التعامل مع نجاد، برغم معارضة مناوئيه.

هذا الموقف الغربي لم يطبق على حالات أخطر كثيرا، كما حدث في موريتانيا مؤخرا. فقد أقرت المحكمة الدستورية الاسبوع الماضي فوز محمد ولد عبد العزيز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في مطلع الاسبوع رافضة الطعن الذي تقدم به بعض المرشحين الخاسرين بان الانتخابات زورت.

وكان المرشحون الخاسرون احمد ولد داده ومسعود ولد بلخير وأعل ولد محمد فال قد استأنفوا للمحكمة لالغاء نتائج الانتخابات وقدموا ادلة قالوا انها ستبرهن على ان الانتخابات لم تكن نزيهة.
 الغربيون لم يقفوا كثيرا عند الانقلاب ضد رئيس منتخب، ولم يعترضوا على طعن المرشحين الخاسرين، بل انهم قبلوا قرار المحكمة الدستورية بشرعية الانتخابات، واعتبروها مقبولة وشرعية. وهذا ما حدث في ايران ايضا، اذ أكد مجلس صيانة الدستور بعد مراجعة جزء من صناديق الاقتراع، عدم وجود مخالفات او تزوير في الممارسة الانتخابية. ولكن الغربيين ما يزالون يكررون ادعاءاتهم بتزوير الانتخابات، بدون تقديم أدلة ملموسة. هذه الازدواجية في التعامل مع حدثين متشابهين جدا بتوجهين مختلفين، يسلب الديمقراطية الليبرالية سمة الاستقلال التام ويحرمها من الارضية الاخلاقية الراقية التي تؤهلها كنظام سياسي عالمي.

هذا الموقف شبيه بما حدث في هندوراس مؤخرا. فهناك شعور عام بان كلا من الولايات المتحدة ومنظمة الدول الامريكية سوف تتعايشان مع الواقع الجديد الذي فرضه العسكر على البلاد باطاحة الرئيس المنتخب، مانويل زيلايا قبل شهر. هذا الانقلاب العسكري ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيا الذي حدث في 28 حزيران (يونيو) الماضي لم يواجه بقوة، بل بردود فعل محسوبة تلاشت تدريجيا واصبح خلع الرئيس المنتخب امرا مقبولا من الناحية العملية. والواضح ان التهديدات التي وجهت لعسكر هندوراس لم تنطو على تحد حقيقي، بل كان تعبيرا عن الظهور بعمل شيء ما لتأكيد حقيقة ما جرى. وثمة اشاعات لم تتأكد حتى الآن وتلميحات الى دور اجهزة الاستخبارات الامريكية في ذلك الانقلاب، كما فعلت عندما دبرت في 1953 الانقلاب ضد الزعيم الايراني المنتخب، محمد مصدق، واعادت الشاه الى الحكم. واتهمت الـ (سي آي أيه) بتدبير الانقلاب العسكري ضد زعيم تشيلي السابق، سلفادور اللندي، المنتخب ديمقراطيا، واحلت مكانه نظاما عسكريا. وقتل البلجيكيون في 1961 رئيس الكونغو، 'اتريس لومومبا الذي كان أول رئيس وزراء منتخب في تاريخ بلاده أثناء الاحتلال البلجيكي.

السياسة الغربية اذن ليست ملتزمة تماما بمقتضيات شعار ترويج الديمقراطية الليبرالية، فالمواقف هنا نسبية، لا تنفك عن معايير المصلحة والمضرة بعيدا عن معايير المبدأ والشعار. وما يطرحه الغرب من وقائع لتبرير الصراعات المختلفة يختلف عن الدوافع الحقيقية، الامر الذي يشكل تناقضا صريحا بين الشعار والتطبيق. وصراع الغرب مع التنظيمات الارهابية كالقاعدة ليس نابعا عن خلاف عقائدي او ايديولوجي، بل بسبب تضارب المصالح. فالولايات المتحدة كانت تعرف التوجهات الدينية لدى أسامة بن لادن عندما تعاونت معه في الثمانينات خلال الحرب ضد الاحتلال السوفييتي لافغانستان.

واشنطن التي رعت نمو (القاعدة) ما تزال تتعاون مع الانظمة الاستبدادية بمجلس التعاون مع علمها ان بعضها يرعى المدارس الفقهية التي تفرخ الارهاب والتطرف، ويتناقض، نظريا على الاقل، مع مشروع الديمقراطية الليبرالية التي يفترض ان الغربيين يروجون لها ويعملون بمقتضاها. ويمكن اعتبار استمرار ظواهر الارهاب والتطرف ثمرة مباشرة لتلك السياسات. وما لم يبادر الغربيون لاحتواء تناقضاتهم بين رفع الشعار وتطبيقه، فستظل تبعات ذلك التناقض تلاحقهم وتهدد مصالحهم وتكرس حالة العنف والتطرف وتهدد الامن وتوتر العلاقات مع شعوب العالم الاسلامي وغيره.