رمز الخبر: ۱۴۳۷۱
تأريخ النشر: 13:30 - 02 August 2009
سليمان تقي الدين
عصرایران - لعل أسوأ ما نعانيه في تفكيرنا السياسي أننا محكومون دائماً بالنظر إلى أمورنا من زاوية ماذا تريد إسرائيل وماذا تريد أميركا.

حتى الهاجس الإيراني اعتدنا أن نتطلع إليه بعين إسرائيل وأميركا. القراءة المعكوسة لمشكلات المنطقة تبدو وكأنها مجرد مشاعر وتمنيات. نكاد نفقد القدرة على قول كلام جدي تجاه العرب.

حتى المقاومة في لبنان وفلسطين، وهما الفعل العربي شبه الوحيد الذي يعرف ما يريد، صارا جزءاً من منظومة إقليمية لها أحكامها وحساباتها وليستا بالتالي خارج سقف النظام الرسمي العربي بشكل أو بآخر. المقاومة في فلسطين شغلها الرئيسي أن تستعيد بعض شرعيتها العربية.

(حماس) بعد صمودها الأسطوري في (غزة) بما له وعليه، بأعباء هذا الصمود وكلفته الإنسانية، بأوهامه عن إمكان تعديل الموازين مع إسرائيل من خلال انتفاضة (السجناء المحاصرين في القطاع) هي الآن عاجزة عن إعادة اندماجها في مشروع الشعب الفلسطيني ككل، وبالذات اتصالها الحياتي والسياسي بالضفة الغربية وقواها وفصائلها، في السلطة وخارج السلطة. وهناك طبعاً (الروم في وجهها وخلف ظهرها). (غزة) بلا علاقة صحيحة مع مصر هي مجرد باخرة في عرض البحر. والشعب الفلسطيني المشرذم بين الفصائل وصراعاتها هو مشروع للتصفية لا مشروع للانتصار.

أما المقاومة اللبنانية، التي توافر لها الحاضنان الشعبي والإقليمي، فهي القوة الميدانية الوحيدة التي يمكن الرهان الجدي عليها لمواجهة إسرائيل. يعرف القاصي والداني الآن أنها جزء من الجغرافيا والديمغرافيا التي لا يمكن قضمها أو هضمها إلا بإزالة جزء من لبنان إن لم يكن تدميره، على ما يقول محللون عسكريون كبار.

هذه المقاومة التي تشغل العقل الاستراتيجي الإسرائيلي على نحو ما شهدناه من سيل الأبحاث والدراسات ومن سيل المواقف والتصريحات والتهديدات ضدها، هي أيضاً محل استهداف عربي ومحل حذر لبناني.

في عمق تفكير المقاومة، وهذا صحيح إلى حد بعيد، أن المواجهة مع إسرائيل هي الأصل، فإذا انكسرت شوكة إسرائيل، وهذا ممكن بما أعدت المقاومة لمواجهتها، فإن المناخ المحيط كله سيتغيّر. هذا الاستنتاج هو أيضاً فيه الكثير من الحقيقة، لأن التوازن السياسي اللبناني الحالي، رغم نكسة الانتخابات، يؤكد أن رصيد المقاومة هو في الميزان الإجمالي وهو الذي يساهم في تطويع بعض المواقف الرسمية العربية وحفزها للبحث عن تسوية، لكن هذا لا يكفي.

همّنا يبقى من نوع آخر. ليست الإنجازات العسكرية حالات استثنائية في تاريخنا. خلافاً لكل القراءة العدمية ودون التوغل في التاريخ. لدينا ثلاث مقاومات قدّمت وما تزال أكثر مما كان يتوقع منها، في فلسطين ولبنان والعراق. هناك خلل له علاقة بالاستثمار السياسي والاجتماعي في كل بيئة وطنية على حدة، وهناك خلل في التواصل مع البيئة العربية الأوسع لبناء ثقافة المقاومة.

ليس صحيحاً أن المنبت المذهبي أو التكوين الفئوي هنا أو هناك هو العائق غير القابل للتجاوز. لطالما كانت كل تجارب العمل الوطني العربي مشوبة بمنطق التباين في المبادرة والاستعداد للمواجهة. إن البيئات الفئوية، سواء أكانت دولاً، أو كانت جماعات وطوائف وإثنيات، هي أيضاً ناهضت الزعيم القومي الأبرز الخارج من صلب الأمة ومتنها ومن أعظم دولة فيها.

واجه عبد الناصر ممالك وإمارات ومشيخات وقبائل ومصالح مدن وطبقات وطوائف وزعامات شخصية وإثنيات، في اليمن والسودان، في الخليج (الفارسي) وفي سوريا ولبنان وفي الجزائر. ومن قبل واجه الشريف حسين وفيصل والثورة السورية الكبرى وغيرها تعقيدات السوسيولوجيا العربية غير المتجانسة. لكننا نجحنا في طرد الاستعمار القديم وهذا ما لا يجوز تجاهله، ووقعنا في حبائل الإمبريالية التي اخترقت بنيات العرب اقتصادياً ومن ثم ثقافياً وسياسياً، وها هي اليوم تعيد نشر قواتها العسكرية في أرضنا، لأنها احتلت إرادتنا مسبقاً ووعينا وأسقطت بالدرجة الأولى مشروعنا السياسي العربي. نحن مهزومون اليوم لمجرد أننا لا نملك رؤية ومشروعاً وليس لأننا نواجه تحديات عسكرية هنا أو هناك. نحن مهزومون لأن الكلمة لإسرائيل وأميركا ولا نملك ما نقول كأمة ليصير علينا واجبات تتم ترجمتها في سلسلة من الأفعال بعضها مقاومة عسكرية وأكثرها مقاومة مجتمعات ترسم طريقها إلى الحصول على المناعة والتماسك وامتلاك أدوات القوة. المسألة أحياناً تبدأ من حديقة البيت، ومن معالجة الكهرباء ومن تنظيم حركة السير، ومن خطط التربية، ومن مضمون الإعلام، ومن الخيارات الاقتصادية، ومن كيف نتعامل مع الصحة والمرض ومن بعدُ مع الجرحى في الميدان، ومع خطوط التموين والإمداد والإدارة، وكيف نختار تنظيمنا السياسي ونحاسب ونراقب ونقترع ونختار مراتب القيادة، وكيف نشكل حكوماتنا إذا لزم الأمر، وفق حاجاتنا الوطنية وليس وفق النصائح والإيحاءات.

أين أصبح المليون شهيد في الجزائر، وأين أصبحت ثورتا صنعاء وعدن؟ أين صارت الناصرية القومية الصافية والاشتراكية المنتحرة على أقدام (الحوثيين) و(الأمازيغ) و(السلفية التكفيرية)، وأين صارت (البعثية) التي أسّسها مسيحي والسورية القومية كذلك و(جبهتا اليسار الفلسطيني) في شوارع العراق وأزقة المخيمات الفلسطينية، إلخ..

ثمة عطب إذاً، (لأن السلاح يتكفّلُ بالماضي أما الكتاب فبالمستقبل). السلاح وحده لا يبني مستقبلاً، والثورة نفسها حين ترتع في حضن الدولة تمتصها تقاليدها. والسلطة وحدها بجميع معانيها مشروع جمود لا مشروع حراك وتطوير وتقدم. فكيف إذا كانت السلطة مجتزأة أو كسرة من وطن أو قطعة من أمة ونظام إقليمي ودولي. وإذا كانت السلطة ليست مدخلاً لاستنهاض الأمة!

إن فكرنا السياسي يُذلّ يومياً ونحن نطرح الأسئلة ونحلّل: ماذا تخطّط أميركا وإسرائيل؟ وما يغري تركيا بمساندتنا؟ ولماذا أدارت روسيا ظهرها لنا ولا نخطر على بال الصين؟ ولماذا تسير أوروبا في فلك أميركا وتغض الطرف عن جرائم إسرائيل؟! وهناك جواب واحد لجميع الأسئلة: ماذا نملك من قوة وكيف نديرها؟ وللقوة اليوم عناصر عدة بعضها في المقاومة والسلاح وبعضها الآخر في مؤهلات الإنسان العربي.