رمز الخبر: ۱۹۵۹۷
تأريخ النشر: 17:48 - 11 January 2010
محمّد الأمين
محمّد الأمين*- إذاعة هولندا العالمية

 قضيت خمسة وعشرين عاما من حياتي في أهم مدينيتين شيعيتين هما مدينة كربلاء العراقية ومدينة قم الايرانية ، مما جعلني أعيش طقوس عاشوراء منذ طفولتي، تعرفت في هاتين المدينتين على أناس ينتمون الى بلدان وقوميات متعددة ويوحدهم المعتقد المذهبي.
 
في بيت جدي لأمي بكربلاء وبصحبة من يقاربني في العمر من أخوالي وخالاتي قضيت أيام العطل، غالبا كان هناك ضيوف من البحرين وشرق الجزيرة العربية، نتقاسم معهم الأجواء الروحية التي لا تضاهى حين نقف على سطيحة الدار متوجهين بالتحية إلى ضريح الحسين بن علي عليهما السلام ،وأعيننا شاخصة نحو قبته المذهبة القريبة.
 
من حي عقد القاضي، مروراً بمزار كف العباس المقطوعة بجوار محل بيع الألبان كنت أشق طريقي نحو ضريح الحسين بن علي، كانت الطقوس تقتضي تلاوة النص المعروف باسم "زيارة وارث" داخل الضريح أو في الباحة الخارجية المسماة بالصحن. لم يكن البناء الفخم هو وحده ما يثير فيّ الرهبة وانما ذلك الخزين من الأفكار والانطباعات التي هي حصيلة تربية دينية محافظة.
 
►قميص كربلائي مبارك
 
كنت في الثانية عشرة من العمر حين تم تهجيري الى إيران مع عائلتي بسبب أصولنا الفارسية، كان ذلك في السنة الثانية من الحرب المفروضة  (1980-1988)، أي في أوج احتدام المعارك. استقبلنا على الحدود الايرانية جنود ايرانيون شبان، مازلت أتذكر مشهدهم وهم ينحبون عند رؤيتنا صارخين "فداء لضريحك السداسي يا حسين". وقد فوجئت بهذا التعبير الذي لم أسمع به من قبل، في كربلاء نفسها، وهو تعبير شائع بين الإيرانيين، بسبب تفرد الضريح بشكله السداسي، عن الأضرحة الشيعية الأخرى.
 
كان همهم الأساس هو الحصول منا على قمصان أو قطع قماش تم تمريرها على مزار الحسين عليه السلام من أجل التبرك بها.
 
في مخيم جهرم حيث أقمنا مؤقتا سألني الجندي الايراني مجيد ان كنت أحتفظ بقميص سبق أن إرتديه في زيارتي للإمام الحسين، أجبته نعم ووعدته بأن أهديه له في وقت لاحق. بعد شهر سمعت من مكبرات الصوت نداء يطلب مني الحضور الى إدارة المخيم ، إستغربت العائلة من الأمر. صحبتني والدتي الى بوابة المخيم حيث الإدارة وفوجئنا بإمرأة إيرانية مسنة، إستفسرت مني أن كنت أنا الشخص الذي وعد إبنها بالقميص، أجبتها نعم ، فأخبرتني بأن أبنها إستشهد قبل أيام في احدى المعارك وترك وصية يطلب فيها وضع قميصي على قبره!.
 
وعي آخر
 
في مدينة قم، تكون لدي وعي آخر عن واقعة كربلاء، فبقدر ما كنت مأخوذا بمشاهد المواكب الحسينية وحملة المشاعل والشموع واللاطمين والزاحفين على ركبهم والشباب الذين يحلمون أن يمسهم الجنون في حب الحسين، وصدى اللطم والضرب بالسلاسل الحديدية على الظهور نهارا والنواح والنعي الذي يجوب أزقة المدينة ليلا ، بقدر ما تعرفت على مفكرين دينيين متنورين، ركزوا على الجانب الفكري والقيمي في قضية الحسين: مجابهة الظلم وتحدي الظالمين.

كونوا أحراراً!
 
قراءاتي لمفكرين ورجال دين متنورين، مثل العراقي محمد باقر الصدر والإيراني علي مطهري، خصوصاً كتابه القيـّم "الملحمة الحسينية"، ولـّدت لديّ علاقة جديدة بقضية الحسين. لم تعد المناسبة تعني لي أن أكون بارعا في اللطم والبكاء حد الإغماء. صارت رديفا للحرية والتحرر، ومحفزا للتسامي وكرامة النفس. بل اكتشفتُ من خلال تلك القراءات، أن الفكرة الأهم التي تختزنها قصة الحسين، ليست دينية في جوهرها، بل إنسانية، تتعلق بالحرية قبل كل شيء. فالحسين يخاطب خصومه أنفسهم داعياً إياهم إلى اكتشاف قيمة الحرية الإنسانية في أعماقهم، حيث يقول لهم: "ان لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم".

تتجذر عاشوراء في شخصية الفرد الشيعي، ولا يستطيع الفكاك منها، أعرف أصدقاء عراقيين هم من الأسماء الشعرية الحداثية الهامة، ومتمردين على الفكر الديني، صاروا يلطمون بجدية وبتماه تام أثناء لحظات روحية دهمتهم، فجأة، في إحدى حانات أمستردام. شخصيا، من الصعب عليّ أن لا أنجر الى تفاعل روحي مع صوت المنشد عبد الزهرة الكعبي وهو يقرأ قصة مقتل الحسين برواية أبي مخنف، أو المداح الحسيني حمزة الزغير.

في الشهر القادم سأحرص على حضور "سيمفونية عاشوراء" في طهران. وهذه السمفونية هي إحدى الصيغ الجديدة للتعبير عن التفاعل مع ذكرى عاشوراء بأساليب عصرية، وقد أنجزتها فرقة أوركسترا إيرانية، وشاركت في مهرجانات موسيقية عالمية. حضرت عدة مرات في الكنائس الهولندية للاستماع الى قصة آلام المسيح كما جسدها موسيقيا يوهان سباستيان باخ. وسوف تكون سمفونية عاشوراء بالنسبة لي فرصة لإختبار مدى قدرتي على التفاعل الجمالي مع موسيقى تنطلق من حدث يحفر عميقا في الذاكرة والوجدان.

تنصحني قريبة لي بأن أكفّ عن طرح هذه المقارنات والأفكار، لأنها حسب رأيها تجلب لي تهمة الإلحاد، في الوسط العائلي. في المقابل فإن أصدقائي الذين يصفون أنفسهم بالملحدين يسخرون من اهتمامي بذكرى عاشوراء ويعتقدون أنني غير قادر على التخلص من رواسب التربية الدينية وأجواء كربلاء وقم .
 
•    محمّد الأمين شاعر وصحافي عراقي مقيم في لاهاي.
•    alamin62@gmail.com