رمز الخبر: ۴۵۳
تأريخ النشر: 16:03 - 27 October 2007
مراجعة كتاب المستشرق جانسن (J. J. G. JANSEN)
طهران ـ عصر إیران ـ شهدت حركة الاستشراق منذ نهاية القرن التاسع عشر اهتماماً متزيداً بدراسة القرآن الكريم، وقد تزامن هذا الاهتمام مع ظهور مدرسة نقد الكتب المقدسة في الفكر الغربي الحديث، التي كان من رموزها اسبينوزا... ورينان، وقد كانت هذه المدرسة وما زالت تنظر إلى الكتب المقدسة بوصفها نتاجاً بشرياً له علاقة بالبيئة الثقافية والحضارية التي جاءت فيها هذه النصوص، لذلك عكفت على دراستها في ضوء الوثائق التاريخية، وأخضعتها للنقد التاريخي من حيث الشكل والمضمون.
وكان من آثار ظهور هذه المدرسة في الفكر الغربي أن بدأ المستشرقون بدراسة القرآن الكريم وفق هذا المنظور الوضعي، وهكذا ظهر الجيل الأول والثاني من المستشرقين الذين تبنوا هذا الاتجاه، من أمثال نولدكه، بلاشير، فليشر، جيفري، أربريي، بِل...ومن بين أبناء الجيل الثاني في هذه المدرسة الاستشراقية برز غولد زيهر الذي وسَّع من دائرة اهتمامه بالدراسات القرآنية لتصل إلى دراسة تاريخ التفسير إلى مستهل القرن العشرين، وقد شكَّلت دراسات زيهر ـ التي منذ عهد رسول الله تُرجمت إلى العربية تحت عنوان مذاهب التفسير الإسلامي(1) ـ الأساس المنهجي والمعرفي لكل من جاء بعده من المستشرقين، الذين اهتموا بشكل خاص بدراسة تاريخ حركة التفسير في التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر على السواء.
ولعل أبرز مؤلفات الجيل الاستشراقي الثالث في ميدان دراسة حركة واتجاهات التفسير في العصر الحديث، هي مؤلفات الباحث الفرنسي جومييه الذي قدَّم دراستين، واحدة عن تفسير المنار للشيخين محمد عبده، ورشيد رضا عام 1954م، والأخرى عن الشيخ جوهري طنطاوي وتفسيره الجواهر عام 1957.(2) ثم جاء بعده المستشرق الهولندي بالجون صاحب كتاب ( التفاسير القرآنية الحديثة 1880ـ 1960) الذي صبَّ معظم اهتمامه فيه على دراسة التفاسير القرآنية التي ظهرت باللغة الأوردية في الهند وباكستان، والتفاسير التي ظهرت في مصر في تلك الفترة(3) . ثم جاء بعده الباحث جانسن(4) صاحب كتاب: ( التفاسير القرآنية في مصر في العصر الحديث)(5) . الذي سيكون محور حديثنا في هذا العرض والمراجعة.

ـ عرض وتحليل:
تناول هذا الكتاب بالدراسة والتحليل الموجزين معظم جهود مفسري القرآن الكريم، والباحثين في ميدان الدراسات القرآنية في مصر منذ بداية القرن العشرين إلى عام 1970م، أو ـ بلغة المؤلف ـ من الشيخ محمد عبده إلى الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطىء أول مفسِّرة أو باحثة في الدراسات القرآنية في العصر الحديث.
صنَّف المؤلف المادة العلمية التي قام بدراستها إلى ثلاثة اتجاهات، حسب الاهتمام الذي غلب على كل مفسر وباحث أثناء تفسيره أو دراسته للقرآن الكريم، وهذه الاتجاهات هي: الاتجاه العلمي في التفسير، والاتجاه البياني والأدبي في التفسير، وأخيراً الاتجاه الاجتماعي العملي في التفسير.
قسّم المؤلف كتابه إلى مقدمة، وخمسة فصول، وخاتمة. تناول في المقدمة الأسباب التي دفعته للكتابة في هذا الموضوع، وحصرها بشكل رئيسي بضرورة تعريف القارىء الغربي بجهود العلماء المسلمين في ميدان تفسير القرآن الكريم، وذلك بسبب جهل هذا الجمهور بهذا الميدان بشكل عام، وصعوبة تعاملهم معه، وحاجتهم في الوقت نفسه إلى هذه المعرفة لأنها تشكل مدخلاً ضرورياً لفهم الإسلام، والفكر الإسلامي. و قد أشار المؤلف إلى كثرة المؤلفات في مجال التفسير، وبشكل خاص المؤلفات الحديثة التي لفتت نظره، واسترعت انتباهه أثناء زيارته العلمية للقاهرة عامي 1967ـ 1968، الأمر الذي شجعه على البحث في هذا المجال، وبشكل خاص دراسة الكتب التي نُشرت في مصر بين عامي: 1900ـ 1970م. إذاً، فإن هدف المؤلف من كتابه هو الاستجابة لحاجات وفضول القراء الغربيين في الاطلاع على جهود المسلمين المعاصرين في ميدان علم التفسير.
خصَّص المؤلف الفصل الأول لذكر مقدمة عامة عن القرآن الكريم، وتاريخ تفسيره بشكل عام. وقد أشار المؤلف في صدر كلامه إلى أن المسلمين يعتقدون أن القرآن الكريم بكامل حروفه ومعانيه وحي مباشر من الله تعالى عن طريق الملَك جبريل، وهو إزاء هذه النقطة الجوهرية لم يوضح لنا موقفه بشكل صريح من هذه الحقيقة التي يعتقدها المسلمون جميعاً، وأغلب الظن عندي أن المؤلف لا يقبل هذه الحقيقة، مثله مثل أغلب المستشرقين من قبله، ويتضح لنا موقفه هذا من خلال استخدامه عبارات التضعيف والشك عندما أشار إلى هذه الحقيقة(6) . ولكي يقرِّب المؤلف فكرة ألوهية القرآن الكريم نصاً ومعنىً إلى أذهان قُرّائه، عقد مقارنة بينه وبين الأناجيل الأربعة المعترف بها عند المسيحيين، ووصل من خلال هذه المقارنة إلى أن القرآن الكريم في عقيدة المسلمين لا يوازي هذه الأناجيل التي يقول المسيحيون: إنها مكتوبة بألفاظ وكلمات جامعيها ومدونيها الأربعة: لوقا، متَّى، يوحنا، مرقس، بل هو يوازي شخص السيد المسيح نفسه، من حيث إنه ابن الله وكلمته، وإنه غير مخلوق في نظر علماء اللاهوت المسيحيين، بالقرآن الكريم الذي هو كلمة الله تعالى غير المخلوقة في نظر المسلمين. فبناءً على هذا الاعتبار أصبح رسول الله في نظر المؤلف، مثل القديس بولس من حيث إنهما الرجلان اللذين بلَّغا كلمة الله تعالى ( القرآن الكريم، والإيمان بالمسيح وقيامته) إلى العالم أجمع. ووصل من خلال كلامه السابق إلى القول بأن أية محاولة لدراسة القرآن في ضوء أفكار المدرسة التاريخية النقدية التي لا تعترف بألوهية الكتب المقدسة، تُواجَه بالرفض الشديد من قِبل المسلمين كما تُواجه بالرفض من قِبل المسيحيين المؤمنين أيةُ محاولة لدراسة شخصية المسيح في ضوء نظريات التحليل النفسي التي لا ترى في المسيح عليه السلام أكثر من شخص بشري عادي لا تربطه أية صلة وعلاقة بالله تعالى . ثم قام المؤلف بعرضٍ موجزٍ وسريع لمعنى تفسير القرآن الكريم، والمراحل والاتجاهات الكبرى التي عرفها تفسيره عبر التاريخ الإسلامي قديماً وحديثاً، مع تركيز وتحليل خاص لجهود المفسرين المصريين في العصر الحديث، وقد وصل في نهاية تحليله المقتضب هذا إلى النتيجة التالية: إنَّ معظم التفاسير التي ظهرت في مصر في العصر الحديث هي تفاسير تقليدية، وقد استدل على هذه النتيجة التي وصل إليها بالمحتوى التراثي لكل هذه التفاسير المعاصرة، حيث اكتفت هذه التفاسير بتغيير عناوينها فقط، في حين حافظت بشكل كامل تقريباً على الإرث التفسيري السابق، وبشكل خاص تفسيري الزمخشري والجلالين _ مع شيء من التحديث والتبسيط، دون أية إضافة تجديدية معتبرة، ولم يستثن من هذا الحكم ـ غير المنصف(8) ـ سوى جهود محمد عبده، وأمين الخولي دون أن يذكر لنا وجوه إضافة هذين الرجلين، أو جوانب تجديدهما في ميدان تفسير القرآن الكريم(9) .
ثم انتقل في الفصل الثاني إلى الحديث عن جهود الشيخ محمد عبده في التفسير، باعتباره ـ في نظر المؤلف ـ الشخصية العلمية الأكثر تجديداً، وتأثيراً في مجمل حركة التفسير في مصر في العصر الحديث. وفي الحقيقة، فإن المؤلف في كلامه عن جهود عبده لم يزد على عرض وتلخيص أفكار عبده، المعروفة سابقاً، في مسائل علم التفسير الرئيسة مثل، موقفه من الهدف من التفسير، اللغة، التفسير العلمي، الإسرائيليات، قضايا العقيدة، التصوف، قضايا المجتمع والعصر... دون أن يتطرق إلى دراسة ومعالجة هذه المواقف بطريقة تحليلية ونقدية، تبِّرر لنا سبب اعتبار المؤلف عبده أهم مفسِّر ظهر في مصر في العصر الحديث، بل اكتفى بالسرد، وترديد أفكار محمد عبده بأسلوبٍ عام ومجمل. فجاء فصله هذا فصلاً بسيطاً باهتاً من جهة، ودعائياً من جهة أخرى. وبهذه الطريقة فَقَد هذا الفصل معظم قيمته العلمية(10) .
تحدث المؤلف في فصله الثالث عن الاتجاه العلمي في التفسير، حيث قام أولاً بتحرير معنى التفسير العلمي، وبيان الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال السلف التي تشكِّل الأساس الديني لمشروعية هذا النوع من التفسير في نظر أصحابه، والقائلين به. ثم أشار إلى أن المسلمين قد عرفوا هذا النوع من التفسير والمقاربة للقرآن الكريم، قبل الاحتكاك بالغرب، والاصطدام بقوته العسكرية، وتقدمه العلمي في القرن التاسع عشر، وقد ذكر مثالاً على ذلك جهود ابن أبي الفضل المرسي (1257م)، التي أشار إليها السيوطي في إتقانه، الذي حاول أن يعيد ما وصل إليه عصره من علوم الطب، والفلك، والزراعة... إلى القرآن الكريم. ثم أشار المؤلف إلى اعتماد أصحاب التفسير العلمي على كتاب جواهر القرآن للإمام الغزالي في اكتساب المشروعية الدينية والعلمية لعملهم، حيث ذهب الغزالي في كتابه هذا إلى أنه لا يتمكن من معرفة معاني القرآن الكريم إلا أولئك الذين درسوا العلوم الكونية المستخرجة أصلاً من القرآن الكريم، وكما أن الإنسان لا يمكن أن يعرف معاني القرآن دون معرفة اللغة العربية، فإنه كذلك لا يستطيع أن يعرف مثلاً معنى قوله تعالى { وإذا مرضت فهو يشفين } دون معرفة علوم الطب. وقد شبه الغزالي القرآن الكريم بنهر كبير تتفرع منه روافد كثيرة، وما هذه الروافد إلا فروع المعرفة المتنوعة. وبهذه الطريقة فقد جعل الغزالي دراسة العلوم الكونية شرطاً ضرورياً لدراسة وتفسير القرآن الكريم نفسه(11) .
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلى عرض وتحليل جهود العلماء المصريين المعاصرين في ميدان التفسير العلمي، التي انطلقت في سياق الرد على تفوق الغرب الحضاري على المسلمين، وبدء هيمنته على بلادهم بسبب اكتشافاته العلمية، مشيراً إلى أن أول رائد لهذا التفسير في العصر الحديث، هو الطبيب المصري محمد بن أحمد الإسكندراني الذي نشر في القاهرة كتابه الأول في هذا المجال عام 1880م، تحت عنوان " كشف الأسرار النورانية القرآنية "، ثم نشر كتابه الثاني في دمشق عام 1883م، باسم " تبيان الأسرار الربانية ". وقد أشار المؤلف أن هذا النوع الدراسات كان في مجمله جزءاً من الجدل العام الذي شهده العالم الإسلامي في ذلك الوقت حول جواز أو عدم جواز الاقتباس من علوم الغرب الكافر والمعتدي على أراضي المسلمين. ثم تابع المؤلف تأريخه لجهود أصحاب مدرسة التفسير العلمي من أمثال: يحيى أحمد الدرديري، صاحب كتاب " مكانة العلم في القرآن "، وأحمد مختار الغزي، صاحب كتاب " سرائر القرآن "، و الطبيب محمد توفيق صدقي (1920م) صاحب كتابي: " دروس في سنن الكائنات"، و " محاضرات طبية علمية إسلامية ". ثم خصص المؤلف وقفة خاصة لتحليل جهود الشيخ طنطاوي جوهري، والجدل الذي دار حول كتاباته في هذا الميدان الذي برع فيه، وكان من أهم أقطابه، وقد انتهى به هذا التحليل إلى القول بحق بأن كل جهود الشيخ طنطاوي في هذا الميدان كانت تهدف إلى حث المسلمين على إنجاز التقدم العلمي الذي يليق بهم وبدينهم وبتاريخهم حتى يتمكنوا، بعد إنجاز وحدتهم السياسية أيضاً، من طرد الاستعمار الأوربي من بلادهم(12) . ثم تابع المؤلف تأريخه لرجال هذه المدرسة، من أمثال فريد وجدي (1940م) صاحب كتابي " صفوة العرفان "، و" المصحف المفسر"، وحنفي أحمد، وصلاح الدين خطاب، ومحمد البنا، ومحمد جمال الدين الفندي، ومحمد كامل ضو...، ثم ختم فصله هذا بالإشارة إلى أفكار وآراء معارضي هذا النوع من التفسير قديماً وحديثاً من أمثال البيضاوي، والشاطبي، ورشيد رضا، وأمين الخولي، وحسين الذهبي، عبد الوهاب حمودة..، وأخيرا فقد أشار المؤلف إلى أنه، وعلى الرغم من كل الانتقادات العلمية الموجهة لهذه المدرسة، فإنه لا يملك نفسه من إبداء إعجابه بشجاعة أصحاب هذه المدرسة قديماً وحديثاً، الذين بذلوا جهوداً مضنية ونبيلة في التقريب بين القرآن، العمود الفقري للإسلام، وبين العلوم الحديثة، في حين أن الغرب شهد منذ أيام غاليله ( 1642 م) صدامات عنيفة بين علماء اللاهوت ورجال العلم فيه، واحتاج بعدها إلى قرون طويلة مليئة بالصراعات الدموية حتى تقبل الكنيسة فيه العلوم الصحيحة(13) .
عالج المؤلف في الفصل الرابع الاتجاه اللغوي والأدبي في التفسير، وقد بدأ فصله هذا باستعراض جهود العلماء السابقين في مجال التفسير اللغوي للقرآن الكريم، حيث بدأ بعرض جهود ابن عباس رضي الله عنهما باعتبارها الحجر الأساس لمدرسة التفسير اللغوي في القديم والحديث على السواء، ثم انتقل إلى عرض جهود غيره ن العلماء القدامى الذين أثروا حركة التفسير اللغوي للقرآن الكريم عبر التاريخ من أمثال: أبو عبيدة معمر بن المثنى، والزمخشري الذي يُعد بمثابة الركن المتين، الذي اعتمد على جهوده اللغوية والأدبية كلُ من جاء بعده من المهتمين بالدراسة اللغوية والأدبية للقرآن الكريم، وبشكل خاص العلماء المعاصرين، ثم انتقل المؤلف ليحدثنا بإسهاب عن مدى اهتمام المعاصرين من جميع الاتجاهات التفسيرية بدراسة البعد اللغوي للقرآن الكريم، ثم قام بتحليل بسيط وعام لجهود أمين الخولي، ومحمد أحمد خلف الله، وعائشة عبد الرحمن في هذا المجال، ووصل في نهاية فصله إلى القول بأن معظم جهود المعاصرين في ميدان التفسير اللغوي، ما عدا الجهود المتواضعة للثلاثة الذين سبق ذكرهم، لم تكن أكثر من استنساخ لآراء وأقوال الزمخشري، وهذا الاستنساخ قد أعاق في نظره إمكانية ظهور تفاسير لغوية تحمل طابع الجدة والإبداع، وتسعى بروح مستقلة لدراسة الإشكالات اللغوية التي يثيرها القرآن الكريم، دون أن يذكر لنا نماذج من هذه الإشكالات. وختم حديثه بالقول بأنه بفضل اهتمام المصريين حتى على مستوى مدارسهم الابتدائية والثانوية بدراسة القرآن الكريم لغوياً، فإن المسلم المصري العادي هو أكثر اطلاعاً على المسائل اللغوية المثارة في القرآن، من مثيله المسيحي الغربي من حيث اطلاعه على المشاكل النصية واللغوية الموجودة في الكتاب المقدس(14) .
ثم انتقل المؤلف في فصله الخامس والأخير إلى عرض أفكار وكتابات وأعلام مدرسة الاتجاه الواقعي والعملي في التفسير، وبدأ حديثه بالإشارة إلى أن رشيد رضا هو أول، وأهم من أقحم المشاغل العملية والواقعية في تفسير القرآن الكريم في عصره، ثم تبعه بعد ذلك عدد من المفسرين والعلماء في سلوك هذا المسلك في التفسير، من أهمهم: محمد مصطفى المراغي، وأمين الخولي، ومحمود شلتوت، وحسن البنا، وسيد قطب، وعباس العقاد...، وقد ذكر المؤلف نماذج من مواقفهم إزاء القضايا والمسائل التي عالجوها من مثل: تطبيق الحدود الشرعية، وتطبيق الشريعة بشكل عام، والمسائل الجديدة في الفقه الإسلامي، وقضيتا الاجتهاد والتقليد، ومسألة الخلافة ونظام الحكم، والموقف من الاستعمار، والعلاقة مع الغرب بشكل عام ... ووصل إلى نتيجة متسرعة، وهي أن العلاقة مع الغرب كانت هي البعد الخفي الذي كان يوجه جدل هؤلاء العلماء حول المسائل التي عالجوها في تفاسيرهم وكتبهم حول القرآن الكريم.
وختم فصله هذا بحكم تهكمي ـ غير مسوَّغ علميا ًـ مفاده أن مفسري القرآن الكريم في ذلك الوقت كانوا يميلون مع اتجاهاتهم الإيديولوجية أنىّ مالت هذه الاتجاهات، وقد صبغت هذه الاتجاهات القرآن الكريم وفسَّرته وفق هذه الاتجاهات، حيث وجدنا هناك من يفسر القرآن تفسيراً رأسمالياً، وهناك من يفسره تفسيراً يؤيد الحكم المطلق، وهناك من يفسره تفسيراً يؤيد الحكم البرلماني الديمقراطي(15) !

ـ تقييم ونقد:
وفي الخاتمة، يمكن لنا أن نقول: إن هذا الكتاب الذي استطاع أن يفرض نفسه على المكتبة الاستشراقية، بحيث أصبح الآن مرجعاً أساسياً لاغنى عنه لأي باحث غربي في ميدان حركة التفسير ومدارسها في العصر الحديث، قد حافظ على النظرة الاستشراقية التقليدية لمجمل حركة التفسير في العصر الحديث تلك النظرة التي تعود إلى كتابات غولد زيهر في هذا الميدان بشكل عام، إلا أنه مع ذلك قد استطاع أن يضيف على الأقل شيئا جديداً على مستوى المادة والتحليل أثناء دراسته لاتجاه التفسير العلمي، ربما يعود ذلك إلى عدم وجود كتابات لغولد زيهر عن هذا الاتجاه الذي اشتد عوده وظهرت ملامحه بقوة بعد وفاته عام 1921. هذا بالإضافة إلى حرص المؤلف المستمر على الالتفات، ولو بشكل سريع وموجز، إلى السياق المسيحي الحديث فيما يتعلق بنظرة وطريقة تعامل المسلمين والمسيحيين المعاصرين مع كتابهم المقدَّس.
ويمكن القول أيضاً: إن معظم الباحثين المعاصرين الذين اهتموا بدراسة وتأريخ حركة التفسير في العصر الحديث قد تبنوا بشكلٍ أو بآخر مع بعض الزيادات النموذج التصنيفي الذي اعتمده جانسن، وشاركه في الدعوة إليه في الفترة نفسها عفت محمد الشرقاوي في كتابه" اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث"(16) ، حيث حددا اتجاهات التفسير في مصر في الاتجاه العلمي، والأدبي، والاجتماعي، ويكفي أن نشير هنا إلى كتاب فهد الرومي " اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر "، لندرك مدى تأثير تصنيف جانسن والشرقاوي شكلاً ومضموناً على هؤلاء الدارسين، ولو كان هذا التأثير قد أتى عن طريق غير مباشر غالباً.
وفي المقابل، فإنه يمكن تقديم الملاحظات النقدية التالية على الكتاب:
ميل المؤلف الواضح إلى الإيجاز والاختصار الشديدين، فموضوع كبير ومتشعِّب مثل هذا الموضوع يستحق معالجة أكبر من المعالجة الموجزة والمكثفة التي قدَّمها المؤلف في أقل من مائة صفحة. وافتقار الكتاب إلى التحليل والنقد في معظم الحالات، بالإضافة إلى لجوئه إلى الإجمال والتعميم المتسرع في كثير من الحالات، ونظرته السلبية العامة إلى جهود المفسرين في هذه الفترة حيث وصفهم بالجمود والتقليد في أكثر من موضع دون أن يذكر لنا سببا مقنعا لما وصفهم به ما عدا أنهم حافظوا على التراث التفسيري القديم، وتمسكوا به، على الرغم من أن هذه المحافظة بحد ذاتها لا يمكن أن تكون دليل اتهام لأحد، بل قد تكون أحياناً علامة أصالة وتواصل مع الذاكرة الجمعية الإسلامية التي تحفظ للمسلمين وحدتهم ووجودهم عبر الزمان والمكان. هذا بالإضافة إلى أن المؤلف كان جريئاً في ذكر تقييمات كثيرة دون أن يكلف نفسه عناء إثباتها بطريقة علمية منهجية.
(حازم زكريا محيي الدين؛ كاتب سوري)

الإحالات والتعليقات:
(1) ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار. وقد سبقه إلى ترجمة فصول من هذا الكتاب الدكتور علي حسن عبد القادر.
(2) نشر جاك جومييه كتابيه تحت العنوانين التاليين : J. Jomier: Le commentaire Coranique du Manar.
Le Cheikh Tantawi Jawhari (1862 – 1940) et son commentaire du Coran.

(3) نشر بالجون كتابه باللغة الإنكليزية عام 1968 تحت عنوان:
J. M. S. Baljon: Modern Muslim Koran INTERPRETATION (1880- 1960).
(4) مستشرق هولندي يعمل باحثاً في المعهد الهولندي للآثار والدراسات العربية في القاهرة.
(5) J. J. G. JANSEN: THE INTERPRETATION OF THE KORAN IN MODERN EGTPT. PHOTOMECHANICAL REPRENT, LEIDEN, E.J. BRILL, 1980.
(6) انظر، المرجع السابق، ص 1.
(7) انظر، المرجع السابق: ص: 1- 2.
(8) أين الإشارة إلى جهود الشيخ طنطاوي جوهري التجديدية في كتابه " الجواهر في تفسير القرآن الكريم" على سبيل المثال؟
(9) انظر، المرجع السابق: ص، 17.
(10) انظر، المرجع السابق: ص، 18ـ 34.
(11)انظر، المرجع السابق، ص، 37-38.
(12) انظر، المرجع السابق، ص 44- 46.
(13) انظر، المرجع السابق، ص 52- 54.
(14) انظر المرجع السابق، ص 55- 76.
(15) انظر، المرجع السابق، ص 77-94.
(16) ظهرت دراسة عفت الشرقاوي أول مرة عام 1972 تحت عنوان " اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث"، ثم أعاد الشرقاوي نشرها عام 1976 تحت عنوان: " الفكر الديني في مواجهة العصر".